Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 25-25)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وهكذا وفّر الحق سبحانه وتعالى لمريم مقوّمات الحياة وعناصر استبقائها ، وهي مُرتَّبة على حَسْب أهميتها للإنسان : الهواء والشراب والطعام ، والإنسان يصبر على الطعام شهراً دون أنْ يأكلَ ، ويمكنه أنْ يقتاتَ على ما هو مخزون في جسمه من غذاء ، لكنه لا يصبر على الماء أكثر من ثلاثة أيام إلى عشرة أيام حسب ما في جسمه من مائية ، في حين لا يصبر على الهواء لحظة واحدة ، ويمكن أنْ يموتَ من كَتْم نفَسٍ واحد . لذلك ، من حكمة الخالق سبحانه وتعالى أن يُملِّك الطعام كثيراً ، ويُملك الماء قليلاً ، ولا يُملِّك الهواء لأحد أبداً ، لأنك لو غضبتَ على أحد فمنعتَ عنه الهواء لمات قبل أنْ ترضى عنه ، إذن : فعناصر استبقاء الحياة مرتبة حَسْب أهميتها في حياة الإنسان ، وقد ضمنها الحق سبحانه لمريم وجعلها في متناول يدها وأغناها عن أنْ يخدمها أحد . فالهواء موجود وهي في الخلاء ، ثم الماء فأجرى تحتها نهراً عذباً زلالاً ، ثم الطعام فقال : { وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً } [ مريم : 25 ] وكأن الحق - تبارك وتعالى - يريد أنْ يُظهِر لمريم آية أخرى من آياته ، فأمرها أنْ تهزَّ جذع النخلة اليابس الذي لا يستطيع هَزَّه الرجل القويّ ، فما بالها وهي الضعيفة التي تعاني ألم الولادة ومشاقها ؟ كما أن الحق سبحانه قادر على أنْ يُنزِل لها طعامها دون جَهْد منها ودون هَزِّها ، إنما أراد سبحانه أن يجمع لها بين شيئين : طلب الأسباب والاعتماد على المسبب ، والأخذ بالأسباب في هَزِّ النخلة ، رغم أنها متعبة قد أرهقها الحمل والولادة ، وجاء بها إلى النخلة لتستند إليها وتتشبث بها في وحدتها لنعلم أن الإنسان في سعيه مُطَالب بالأخذ بالأسباب مهما كان ضعيفاً . لذلك أبقى لمريم اتخاذ الأسباب مع ضَعْفها وعدم قدرتها ، ثم تعتمد على المسبِّب سبحانه الذي أنزل لها الرُّطَب مُسْتوياً ناضجاً ، وهل استطاعت مريم أنْ تهزَّ الجذع الكبير اليابس ؟ إنها مجرد إشارة إليه تدلُّ على امتثال الأمر ، والله تعالى يتولى إنزال الطعام لها ، وقد صَوَّر الشاعر هذا الموقف بقوله : @ أَلَمْ تَرَ أنَّ الله قَالَ لمرْيَم وَهُزِّي إليك الجذْعَ يَسَّاقَط الرُّطبْ وَإنْ شَاءَ أعطَاهَا ومِنْ غير هَزَّة ولكن كُلّ شَيءٍ لَهُ سَبَبْ @@ وقوله : { تُسَاقِطْ … } [ مريم : 25 ] أي : تتساقط عليك { رُطَباً جَنِيّاً } [ مريم : 25 ] أي : استوى واستحق أن يُجنى ، وليس مُبْتسراً قبل موعده ، ومن الرُّطَب ما يتساقط قبل نُضْجه فلا يكون صالحاً للأكل . وقوله : { تُسَاقِطْ عَلَيْكِ … } [ مريم : 25 ] فيه دليل على استجابة الجماد وانفعاله ، وإلا فالبلحة لم تخرج عن طَوْع أمها ، إذن : فقد ألقتْها طواعيةً واستجابة حين تَمَّ نضجها . ثم يقول الحق سبحانه : { فَكُلِي وَٱشْرَبِي وَقَرِّي … } .