Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 42-42)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذا الحديث من إبراهيم عليه السلام لأبيه على اعتبار أنه نبي جاء ليُعدِّل سلوك الناس على وَفْق منهج الله ، وأوّلهم أبوه ، وقد ذكره القرآن هكذا بأبوته لإبراهيم دون أن يذكر اسمه ، إلا في آية واحدة قال فيها : { لأَبِيهِ آزَرَ … } [ الأنعام : 74 ] . وهذه الآية أحدثتْ إشكالاً فظنَّ البعض أن آزر هو أبو إبراهيم الحقيقي الصُّلبي ، وهذا القول يتعارض مع الحديث النبوي الشريف الذي يُوضّح طهارة أصْل النبي محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال : " أنا خيار من خيار ، ما زِلت أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات " . إذن : فأصول النبي إلى آدم " طاهر متزوج طاهرة " ، فلو قلنا : إن آزر الذي قال الله في حقه : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ … } [ التوبة : 114 ] هو أبو إبراهيم ، لكَانَ في ذلك تعارض مع الحديث النبوي ، فكيف يكون من آباء محمد صلى الله عليه وسلم مثل هذا الكافر ؟ ولو تأملنا إطلاقات الأُبوّة في القرآن الكريم لخرجنا من هذا الإشكال ، فالقرآن تكلم عن الأبوة الصُّلْبية المباشرة ، وتكلم عن الأُبوة غير المباشرة في الجد وفي العم ، فسمَّى الجد أباً ، والعم أباً لأنه يشترك مع أبي في جدي ، فله واسطة استحق بها أن يُسمَّى أباً . وفي القرآن نصَّان : أحدهما : يُطلِق على الجد أباً ، والآخر يُطلِق على العم أباً . فالأول في قوله تعالى من قصة يوسف عليه السلام : { وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 36 ] . فاختاروا يوسف لتأويل رؤياهم لأنهم رأوه من المحسنين ، فكأن الإحسان له مقاييس معروفة حتى عند غير المحسن ، فلما تعرَّضوا لأمر يُهمهم لم يلجئوا إلا لهذا الرجل الطيب ، فمقاييس الكمال محترمة ومعتبرة حتى عند فاقد الكمال . فلما قالوا له { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 36 ] علم أنهم متتبعون حركاته وتصرفاته ، وكيف سلوكه بينهم ، فأراد أنْ يزيدهم مما عنده من إشراقات ، فأمْره ليس مجرد سلوك طيب وسيرة حسنة بينهم ، بل عنده أشياء أخرى ، فقال : { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا … } [ يوسف : 37 ] . ثم ترك الإجابة عن سؤالهم ، وأخذ في الحديث فيما يخصّه كنبيّ وداعية إلى الله ، فأخبرهم أن ما عنده من مواهب هو عطاء من الله ، وليس هو بأذكى منهم ، فقال : { ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ … } [ يوسف : 37 - 38 ] . ثم يلفت نظر رفاقه إلى بطلان ما هم عليه من عبادة أرباب متفرقين لم ينفعوهم بشيء ، فهاهم يتركونهم ويلجئون إلى يوسف الذي له رَبٌّ واحد : { يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } [ يوسف : 39 ] . وهكذا كان يوسف النبي الداعية حريصاً على نَشْر دعوته وهداية مَنْ حوله ، حتى وهو في سجنه ما نسِيَ مهمته ، وما قصَّر في دعوته ، فلما فرغ من موعظته واستطاع بلباقة أنْ يُسمعِهم ما يريد ، وإلاّ لو أجابهم عن سؤالهم من بداية الأمر لانصرفوا عن هذه الموعظة ، وما أعاروها اهتماماً . والآن يعود إلى سؤالهم وتفسير رؤياهم : { أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا ٱلآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } [ يوسف : 41 ] . شَاهِدُنا في هذه القصة هو قوله تعالى : { وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ … } [ يوسف : 38 ] ويوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، فسمَّى الأجداد آباءً . وقد يُسمَّى العَمُّ أباً ، كما جاء في قوله تعالى : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ … } [ البقرة : 133 ] فعَدَّ إسماعيلَ في آباء يعقوب ، وهو عَمُّه . إذن : لو أن القرآن الكريم حينما تحدث عن أبي إبراهيم فقال لأبيه في كل الآيات لانصرف المعنى إلى الأُبوة الصُّلْبية الحقيقية ، أما أنْ يقول ولو مرة واحدة { لأَبِيهِ آزَرَ … } [ الأنعام : 74 ] فهذا يعني أن المراد عمه لأنه لا يُؤتي بالعَلَم بعد الأبوة إلا إذا أردنا العم ، كما نقول نحن الآن حين نريد الأبوة الحقيقية : جاء أبوك هكذا مبهمة دون تسمية ، وفي الأبوة غير الحقيقية نقول : جاء أبوك فلان . وبناءً عليه فقد ورد قوله تعالى : { لأَبِيهِ آزَرَ … } [ الأنعام : 74 ] مرة واحدة ، ليثبت لنا أن آزر ليس هو الأب الصُّلْبي لإبراهيم ، وإنما هو عَمُّه ، وبذلك يسْلَم لرسول الله صلى الله عليه وسلم طهارة نسبه ونقاء سِلْسلته إلى آدم عليه السلام . وقوله : { يٰأَبَتِ … } [ مريم : 42 ] وكان التركيب العربي يقتضي أن يقول : يا أبي ، إلا أنهم يحذفون ياء المتكلم ويُعوِّضون عنها بالتاء ، فلماذا ؟ قالوا : لأن أبت لها مَلْحظ دقيق ، فهو يريد أنْ يُثبت أنه وإنْ كان أباً إلا أن فيه حنان الأبوين : الأب والأم . فجاء بالتاء التي تشير إلى الجانب الآخر لذلك نجدها لا تُقال إلا في الحنانية المطلقة يَا أَبَتِ كما لو ماتتْ الأم مثلاً ، فقام الأب بالمهمتين معاً ، وعوض الأبناء حنان الأم المفقود . وقوله : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] يبدو من أسلوب إبراهيم عليه السلام مع أبيه أدَبُ الدعوة ، حيث قدَّم الموعظة على سبيل الاستفهام حتى لا يُشعِر أباه بالنقص ، أو يُظهِر له أنه أعلم منه . { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] نلحظ أنه لم يقُلْ من البداية : لِمَ تعبد الشيطان ، بل أخّر هذه الحقيقة إلى نهاية المناقشة ، وبدل أنْ يقولَ الشيطان حلّل شخصيته ، وأبان عناصره ، وكشف عن حقيقته : لا يسمع ولا يبصر ، ولا يُغني عنك شيئاً ، فهذه الصفات لا تكون في المعبود ، وهي العِلَّة في أنْ نتجنبَ عبادة ما دون الله من شجر أو حجر أو شيطان ، وخصوصاً في بيئة إبراهيم - عليه السلام - وكانت مليئة بالأوثان والأصنام . لأن العبادة ماذا تعني ؟ تعني طاعةَ عابدٍ لمعبود في أَمْره ونَهْيه ، فالذين يعبدون ما دون الله من صنم أو وَثَنٍ أو شمس أو قمر ، بماذا أمرتْهم هذه المعبودات ؟ وعن أيِّ شيء نهتْهُم ؟ وماذا أعدَّتْ هذه المعبودات لمنْ عبدها ؟ وماذا أعدَّتْ لمَنْ عصاها ؟ ما المنهج الذي جاءتْ به حتى تستحقَّ العبادة ؟ لا يوجد شيء من هذا كله ، إذن : فعبادتهم باطلة . ثم يقول : { يٰأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي … } .