Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 179-179)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وهنا نلاحظ أن النسق القرآني يأتي مرة فيقول : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ } [ البقرة : 178 ] . ويأتي هنا ليقول النسق القرآني : { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ } [ البقرة : 179 ] . التشريع الدقيق المحكم يأتي بواجبات وبحقوق فلا واجب بغير حق ، ولا حق بغير واجب ، وحتى نعرف سمو التشريع مطلوب من كل مؤمن أن ينظر إلى ما يجب عليه من تكاليف ، ويقرنه بما له من حقوق ، ولسوف يكتشف المؤمن أنه في ضوء منهج الله قد نال مطلق العدالة . إن المشرع هو الله ، وهو رب الناس جميعاً ، ولذلك فلا يوجد واحد من المؤمنين أولى بالله من المؤمنين الآخرين . إن التكليف الإيماني يمنع الظلم ، ويعيد الحق ، ويحمي ويصون للإنسان المال والعرض . ومن عادة الإنسان أن يجادل في حقوقه ويريدها كاملة ، ويحاول أن يقلل من واجباته ، ولكن الإنسان المؤمن هو الذي يعطي الواجب تماماً فينال حقوقه تامة ، ولذلك يقول الحق : { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَاةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 179 ] . إن القصاص مكتوب على القاتل والمقتول وولي الدم . فإذا علم القاتل أن الله قد قرر القصاص فإن هذا يفرض عليه أن يسلم نفسه ، وعلى أهله ألا يخفوه بعيداً عن أعين الناس لأن القاتل عليه أن يتحمل مسئولية ما فعل ، وحين يجد القاتل نفسه محوطاً بمجتمع مؤمن يرفض القتل فإنه يرتدع ولا يقتل ، إذن ففي القصاص حياة لأن الذي يرغب في أن يقتل يمكنه أن يرتدع عندما يعرف أن هناك مَنْ سيقتص منه ، وأن هناك مَنْ لا يقبل المداراة عليه . ونأتي بعد ذلك للذين يتشدقون ويقولون : إن القصاص وحشية وإهدار لآدمية الإنسان ، ونسألهم : لماذا أخذتكم الغيرة لأن إنساناً يُقتص منه بحق وقد قتل غيره بالباطل ؟ ما الذي يحزنك عليه . إن العقوبة حين شرعها الله لم يشرعها لتقع ، وإنما شرعها لتمنع . ونحن حين نقتص من القاتل نحمي سائر أفراد المجتمع من أن يوجد بينهم قاتل لا يحترم حياة الآخرين ، وفي الوقت نفسه نحمي هذا الفوضوي من نفسه لأنه سيفكر ألف مرة قبل أن يرتكب جريمة . إذن فالقصاص من القاتل عبرة لغيره ، وحماية لسائر أفراد المجتمع ولذلك يقول الحق سبحانه : { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَاةٌ } [ البقرة : 179 ] . إن الحق يريد أن يحذرنا أن تأخذنا الأريحية الكاذبة ، والإنسانية الرعناء ، والعطف الأحمق ، فنقول : نمنع القصاص . كيف نغضب لمعاقبة قاتل بحق ، ولا نتحرك لمقتل بريء ؟ إن الحق حين يشرع القصاص كأنه يقول : إياك أن تقتل أحداً لأنك ستُقتل إن قتلته ، وفي ذلك عصمة لنفوس الناس من القتل . إن في تشريع القصاص استبقاء لحياتكم لأنكم حين تعرفون أنكم عندما تقتلون بريئاً وستقتلون بفعلكم فسوف تمنعون عن القتل ، فكأنكم حقنتم دماءكم . وذلك هو التشريع العالي العادل . وفي القصاص حياة لأن كل واحد عليه القصاص ، وكل واحد له القصاص ، إنه التشريع الذي يخاطب أصحاب العقول وأولي الألباب الذين يعرفون الجوهر المراد من الأشياء والأحكام ، أما غير أولي الألباب فهم الذين يجادلون في الأمور دون أن يعرفوا الجوهر منها ، فلولا القصاص لما ارتدع أحد ، ولولا القصاص لغرقت البشرية في الوحشية . إن الحكمة من تقنين العقوبة ألا تقع الجريمة وبذلك يمكن أن تتوارى الجريمة مع العقوبة ويتوازن الحق مع الواجب . إن المتدبر لأمر الكون يجد أن التوازن في هذه الدنيا على سبيل المثال في السنوات الماضية يأتي من وجود قوتين عظميين كلتاهما تخشى الأخرى وكلتاهما تختلف مع الأخرى ، وفي هذا الاختلاف حياة لغيرهما من الشعوب ، لأنهما لو اتفقتا على الباطل لتهدمت أركان دولتيهما ، وكان في ذلك دمار العالم ، واستعباد لبقية الشعوب . وإذا كان كل نظام من نظم العالم يحمل للآخر الحقد والكراهية والبغضاء ويريد أن يسيطر بنظامه لكنه يخشى قوة النظام الآخر ، لهذا نجد في ذلك الخوف المتبادل حماية لحياة الآخرين ، وفرصة للمؤمنين أن يأخذوا بأسباب الرقي العلمي ليقدموا للدنيا أسلوباً لائقاً بحياة الإنسان على الأرض في ضوء منهج الله . وعندما حدث اندثار لقوة من القوتين هي الاتحاد السوفيتي ، فإن الولايات المتحدة تبحث الآن عن نقيض لها لأنها تعلم أن الحياة دون نقيض في مستوى قوتها ، قد يجرىء الصغار عليها . إن الخوف من العقوبة هو الذي يصنع التوازن بين معسكرات العالم ، والخوف من العقوبة هو الذي يصنع التوازن في الأفراد أيضاً . إن عدل الرحمن هو الذي فرض علينا أن نتعامل مع الجريمة بالعقاب عليها وأن يشاهد هذا العقاب آخرون ليرتدعوا . فها هو ذا الحق في جريمة الزنى على سبيل المثال يؤكد ضرورة أن يشاهد العقاب طائفة من الناس ليرتدعوا . إن التشديد مطلوب في التحري الدقيق في أمر حدوث الزنى لأن عدم دقة التحري يصيب الناس بالقلق ويسبب ارتباكاً وشكاً في الأنساب ، والتشديد جاء أيضاً في العقوبة في قول الحق : { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ النور : 2 ] . إن الذي يجترئ على حقوق الناس يجترئ أيضاً على حقوق الله ، ولذلك فمقتضى إيثار الإيمان هو إرضاء الله لا إرضاء الناس . وفي إنزال العقاب بالمعتدي خضوع لمنهج الله ، وفي رؤية هذا العقاب من قبل الآخرين هو نشر لفكرة أن المعتدي ينال عقاباً ، ولذلك شرع الحق العقاب والعلانية فيه ليستقر التوازن في النفس البشرية . وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى ليعالج قضية اجتماعية أخرى . إن الحق بعد أن عالج قضية إزهاق الحياة ينتقل بنا إلى قضية أخرى من أقضية الحياة ، إنها قضية الموت الطبيعي . كأن الحق بعد أن أوضح لنا علاج قضية الموت بالجريمة يريد أن يوضح لنا بعضاً من متعلقات الموت حتفاً من غير سبب مزهق للروح . إن الحق يعالج في الآية القادمة بعضاً من الأمور المتعلقة بالموت ليحقق التوازن الاقتصادي في المجتمع كما حقق بالآية السابقة التوازن العقابي والجنائي في المجتمع . يقول الحق : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ … } .