Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 191-191)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ونحن نسمع كلمة " ثقافة " ، وكلمة " ثقاف " ، والثقافة هي يسر التعلم ، أو أن تلم بطرف من الأشياء المتعددة ، وبذلك يصبح فلان مثقفاً أي لديه كمُّ من المعلومات ، ويعرف بعض الشيء عن كل شيء ، ثم يتخصص في فرع من فروع المعرفة فيعرف كل شيء عن شيء واحد . كل هذه المعاني مأخوذة من الأمور المحسة ، والتثقيف عند العرب هو تقويم الغصن ، فقد كان العرب يأخذون أغصان الشجر ليجعلوها رماحاً وعصياً ، والغصن قد يكون معوجاً أو به نتوء ، فكان العربي يثقفه ، أي يزيل زوائده واعوجاجه ، ثم يأتي بالثقاف وهو قطعة من الحديد المعقوف ليقوِّم بها المعوج من الأغصان كما يفعل عامل التسليح بحديد البناء . كأن المُثَقِّف هو الذي يعدل من شيء معوج في الكون فهو يعرف هذه وتلك ، وأصبح ذا تقويم سليم . وهكذا نجد أن معاني اللغة وألفاظها مشتقة من المحسات التي أمامنا . وقوله : " ثقفتموهم " أي " وجدتموهم " ، فثقف الشيء أي وجده . والحق يقول : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي ٱلْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم … } [ الأنفال : 57 ] . أي " شردهم حيث تجدهم . ويقول الحق : { وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم } [ البقرة : 191 ] أي لا تقولوا إنهم أخرجوكم من هنا ، وإنما أخرجوهم من حيث أخرجوكم ، أي من أي مكان أنتم فيه ، وعند ذلك لن تكونوا معتدين . وقوله تعالى : { وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } [ البقرة : 191 ] يذكرنا بمنطق مشابه في آية أخرى منها قوله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ … } [ النحل : 126 ] . وقوله تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا … } [ الشورى : 40 ] . وعندما نبحث في ثنايا هذه النصوص " وجزاء سيئة سيئة مثلها " قد يرد هذا الخاطر : أخذت حقي ممن أساء إليّ ، وانتقمت منه بعمل يماثل العمل الذي فعله معي ، هل يقال : إنني فعلت سيئة ؟ وحتى نفهم المسألة نقول : الحق سبحانه وتعالى يأتي في بعض الأحايين بلفظ " المشاكلة " وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحته ، ومثل ذلك قوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ } [ آل عمران : 54 ] ، إن الله لا يمكر ، وإنما اللفظ جاء للمشاكلة ، أو أن اللفظ الكريم قد جاء في استيفاء حقك بكلمة " سيئة مثلها " لينبهك إلى أن استيفاء حقك بمثل ما صنع بك يعتبر سيئة إذا ما وازناه بالصفح والعفو عن المسيء ، يشير إلى ذلك سبحانه في نهاية هذه الآية بقوله : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } [ الشورى : 40 ] وبمثل ذلك كان ختام الآية السابقة { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [ النحل : 126 ] . ويقول الحق : { وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ } [ البقرة : 191 ] ، والفتنة مأخوذة من الأمر الحسي ، فصائغ الذهب يأخذ قطعة الذهب فيضعها في النار فتنصهر ، فإذا ما كان يشوبها معدن غريب عن الذهب فهو يخرج ويبقى الذهب خالصاً ، فكأن الفتنة ابتلاء واختبار ، وقد فعل المشركون ما هو أسوأ من القتل ، فقد حاولوا من قبل أن يفتنوا المؤمنين في دينهم بالتعذيب ، فخرج المؤمنون فراراً بدينهم . والحق يأمر المسلمين في قتالهم مع أهل الشرك أن يراعوا حرمة البيت الحرام ، فلا ينتهكوها بالقتال إلا إذا قاتلهم أهل الشرك . وهكذا نجد أن أول أمر بالقتال إنما جاء لصد العدوان ، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يسقط من أيدي خصوم الإسلام ورقة قد يلعبون بها مع المسلمين ، فهم يعلمون أن المؤمنين بالإسلام سيحترمون الأشهر الحرم ويحترمون المكان الحرام ويحترمون الإحرام فلا يقاتلون وربما أغرى ذلك خصوم الإسلام ألا يقاتلوا المسلمين إلا في الأشهر الحرم ، ويظنون أن المسلمين قد يتهيبون أن يقاتلوهم ، فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يشرع لهم ما يناسب مثل هذا الأمر فأذن لهم في القتال ، فإن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم في الشهر الحرام ، وإن قاتلوكم في المكان الحرام فقاتلوهم في المكان الحرام ، وإن قاتلوكم وأنتم حُرم فقاتلوهم لأن الحرمات قصاص . إذن أسقط الحق الورقة من أيدي الكافرين . إن الحق سبحانه وتعالى يعلل ذلك بأنه وإن كان القتال في الشهر الحرام وفي المكان الحرام وفي حال الإحرام صعباً وشديداً فالفتنة في دين الله أشد من القتل ، لأن الفتنة إنما جاءت لِتُفسِد على الناس دينهم ، صحيح أنها لا تعوق الناس عن أن يتدينوا ، ولكنها تفتن الذين يتدينون ، وقد حاولوا إجبار المسلمين الأوائل بالتعذيب حتى يرتدوا عن الدين ، وكان ذلك أشد من القتل لأنها فتنة في الدين . إن الله هو الذي شرع الشهر الحرام فكيف يُفتن المؤمنون عن دين الله ويُحملون على الشرك به ثم تقولون بعد ذلك إننا في الشهر الحرام ؟ إن الشهر الحرام لم يكن حراماً إلا لأن الله هو الذي حرمه ، فالفتنة في الله شرك وهو أشد من أن نقاتل في الشهر الحرام ، ولذلك فلا داعي أن يتحرج أحد من القتال في الشهر الحرام عندما يفتن في دينه . وحينئذ نعلم أن القتال إنما جاء دفاعاً . وبعد ذلك هل يظل القتال دفاعاً كما يريد خصوم الإسلام أن يجعلوه دفاعاً عَمّن آمن فقط ؟ أو كما يريد الذين يحاولون أن يدفعوا عن الإسلام أنه دين قتال ويقولون : لا ، الإسلام إنما جاء بقتال الدفاع فقط . نقول لهؤلاء : قتال الدفاع عَمَّن ؟ هل دفاع عَمَّن آمن فقط ؟ أم عن مطلق إنسان نريد أن ندفع عنه ما يؤثر في اختيار دينه ؟ هو دفاع أيضاً ، وسنسميه دفاعاً ، ولكنه دفاع عَمَّن آمن ، ندفع عنه مَنْ يعتدي عليه ، وأيضاً عَمَّن لم يؤمن ندفع عنه مَنْ يؤثر عليه في اختيار دينه لنحمي له اختياره ، لا لنحمله على الدين ، ولكن لنجعله حراً في الاختيار فالقوى التي تفرض على الناس ديناً نزيحها من الطريق ، ونعلن دعوة الإسلام ، فمَنْ وقف أمام هذه الدعوة نحاربه لأنه يفسد على الناس اختيار دينهم ، وفي هذا أيضاً دفاع . { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ } [ البقرة : 191 ] لأنكم أحرى وأجدر أن تحترموا تحريم الله للمسجد الحرام ، لكن إذا هم اجترأوا على القتال في المسجد الحرام فقد أباح سبحانه لكم أيها المسلمون أن تقاتلوهم عند المسجد الحرام ما داموا قد قاتلوكم فيه . { فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ * فَإِنِ ٱنتَهَوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ البقرة : 191 - 192 ] . وما أسمى هذا الدين . إننا لا نؤاخذهم بعد أن انتهوا إلى الإيمان بما قدمت أيديهم من الاجتراء على أهل الإيمان ما داموا قد آمنوا ، ولذلك نرى عمر بن الخطاب وقد مر على قاتل أخيه زيد بن الخطاب : وأشار رجل وقال : هذا قاتل زيد . فقال عمر : وماذا أصنع به وقد أسلم ؟ لقد عصم الإسلام دمه . لقد انتهت المسألة بإسلامه ، فالإيمان بالله أعز على المؤمن من دمه ومن نفسه ، وحين يؤمن فقد انتهت الخصومة . وهذا وحشي قاتل حمزة ، يقابله رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل ما يصنعه رسول الله هو أن يزوي وجهه عنه ، لكنه لا يقتله ولا يثأر منه . وهند زوجة أبي سفيان التي أكلت كبد حمزة ، أسلمت وانتهت فعلتها بإسلامها . إذن فالإسلام ليس دين حقد ولا ثأر ولا تصفية حسابات ، فإذا كان الدم يغلي في مواجهة الكفر ، فإن إيمان الكافر بالإسلام يعطيه السلامة ، هذا هو الدين .