Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 212-212)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يريد الحق سبحانه وتعالى أن يبين واقع الإنسان في الكون ، هذا الواقع الذي يدل على أنه سيد ذلك الكون ، ومعنى ذلك أن كل الأجناس تخدمه . وقد عرفنا أن الجماد يخدم النبات ، والجماد والنبات يخدمان الحيوان ، والجماد والنبات والحيوان تخدم الإنسان ، فالإنسان سيد هذه الأجناس . وكان مقتضى العقل أن يبحث هذا السيد عن جنس أعلى منه ، فكما كانت الأجناس التي دونه في خدمته ، فلابد أن يكون هذا الجنس الأعلى يناسب سيادته ، ولن يجد شيئاً في الوجود أبداً أعلى من الجنس الذي ينتسب إليه ، لذلك كان المفروض أن يقول الإنسان : أنا أريد جنساً ينبهني عن نفسي فأنا في أشد الاحتياج إليه . فإذا جاء الرسل وقالوا : إن الذي أعلى منك أيها الإنسان هو الله وليس كمثله شيء وتعالى عن كل الأجناس . كان يجب على الإنسان أن يقول : مرحباً لأن معرفة الله تحل له اللغز . والرسل إنما جاءوا ليحلوا للإنسان لغزاً يبحث عنه ، وكان على الإنسان أن يفرح بمجيء الرسل ، وخصوصاً أن الله عز وجل لا يريد خدمة منه ، إن الإنسان هو الذي يحتاج لعبادة الله ليسخر له الكائنات ، ويعبده ليعزه . إذن فالمؤمن بين أمرين : بين خادم له مسخر وهو من دونه من الجهاد والنبات والحيوان ، ومعطٍ متفضلٍ عليه مُختارٍ وهو أعلى منه . إنه هو الله . فمن يأخذ واحدة ويترك واحدة فقد أخذ الأدنى وترك الأعلى ، فيقول له الحق : خذ الأعلى . فإذا كنت سعيداً بعطاء المخلوقات الأدنى منك ، وتحب أن تستزيد منها فكيف لا تستزيد ممن هو أعلى منك ؟ . إنه الله . والحق عندما يقول : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } [ البقرة : 212 ] فهو يريد أن يلفتنا إلى أن مقاييس الكافرين مقاييس هابطة نازلة لأن الذي زُين لهم هو الأمر الأدنى . ومن خيبة التقدير أن يأخذ الإنسان الأمر الأدنى ويفضله على الأعلى . وكلمة " زُيِّنَ " عندما تأتي في القرآن تكون مبنية لما لم يسم فاعله مثل قوله تعالى : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ … } [ آل عمران : 14 ] . هناك " زين للناس " وفي آية البقرة التي نحن بصددها { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ البقرة : 212 ] لماذا قال الحق هناك : " زين للناس " ولماذا قال هنا : " زين للذين كفروا " ؟ لقد قال الحق ذلك لأن الذين كفروا ليس عندهم إلا الحياة الدنيا ، فالأعلى لا يؤمنون به ، ولكن في مسألة الناس عامة عندما يقول الله عز وجل : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ } [ آل عمران : 14 ] فهو سبحانه يقول للناس : خذوا الحياة على قدرها وزُينت يعني حسُنت . فمن الذي حسنها ؟ لقد حسنها الله عز وجل . فكيف تنسى الذي حسنها لك ، وجعلها تحت تصرفك . كان يجب أن تأخذها وسيلة للإيمان بمن رزقك إياها ، وكلما ترى شيئاً جميلاً في الوجود تقول : " سبحان الله " ، وتزداد إيماناً بالله ، أما أن تأخذ المسألة وتعزلها عمن خلقها فذلك هو المقياس النازل . أو أن الله سبحانه وتعالى هو الذي زينها بأن جعل في الناس غرائز تميل إلى ما تعطيه هذه الحياة الدنيا ، ونقول : هل أعطى سبحانه الغرائز ولم يعط منهجاً لتعلية هذه الغرائز ؟ لا ، لقد أعطى الغرائز وأعطى المنهج لتعلية الغرائز ، فلا تأخذ هذه وتترك تلك . ولذلك يقول الحق : { وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ … } [ الكهف : 46 ] . والحق عندما يقول : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } [ البقرة : 212 ] هو يفضح من يعتقدون أنه لا حياة بعد هذه الحياة ، ونقول لهم : هذا مقياس نازل ، وميزان غير دقيق ، ودليل على الحمق لأنكم ذهبتم إلى الأدنى وتركتم الأعلى . ومن العجيب أنكم فعلتم ذلك ثم يكون بينكم وبين من اختار الأعلى هذه المفارقات . أنتم في الأدنى وتسخرون من الذين التفتوا إلى الأعلى ، إن الحق يقول : { وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ البقرة : 212 ] . لماذا يسخرون منهم . لأن الذين آمنوا ملتزمون ، وما دام الإنسان ملتزماً فسيعوق نفسه عن حركات الوجود التي تأتيه من غير حل ، لكن هؤلاء قد انطلقوا بكل قواهم وملكاتهم إلى ما يزين لهم من الحياة . لذلك تجد إنساناً يعيش في مستوى دخله الحلال ، ولا يملك إلا حُلَّةً واحدة " بدلة " ، وإنساناً آخر يسرق غيره ، فتجد الثاني الذي يعيش على أموال غيره حسن المظهر والهندام وعندما يلتقي الإثنان تجد الذي ينهب يسخر من الذي يعيش على الحلال ، لماذا ؟ لأنه يعتبر نفسه في مقياس أعلى منه ، يرى نفسه حسن الهندام و " الشياكة " فيحسم الحق هذه المسألة ويقول : { وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [ البقرة : 212 ] . لماذا يوم القيامة ، أليسوا فوقهم الآن ؟ إن الحق سبحانه وتعالى يتحدث عن المنظور المرئي للناس لأنهم لا ينظرون إلى الراحة النفسية وهي انسجام ملكات الإنسان حينما يذهب لينام ، ولم يجرب على نفسه سقطة دينية ولا سقطة خلقية ، ولا يؤذي أحداً ، ولا يرتشي ، ولا يَنِم ولا يغتاب ، كيف يكون حاله عندما يستعرض أفعال يومه قبل نومه ؟ لابد أن يكون في سعادة لا تقدر بمال الدنيا . ولذلك لم يدخل الله هذا الإحساس في المقارنة ، وإنما أدخل المسألة التي لا يقدر عليها أحد . { وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [ البقرة : 212 ] . ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ } [ المطففين : 29 - 33 ] . ثم يقول الحق بعد ذلك : { فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ المطففين : 34 - 36 ] . أي هل عرفنا أن نجازيهم ؟ نقول : نعم يا رب . خصوصاً أن ضحك الآخرة ليس بعده بكاء . { وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [ البقرة : 212 ] ونلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى خالف الأسلوب في هذه الآية ، لقد كان المفروض أن يقول : والذين آمنوا فوقهم . لكنه قال : { وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ فَوْقَهُمْ } [ البقرة : 212 ] لأنه قد يؤخذ الإيمان على أنه اسم ، فقد شاع عنك أنك مؤمن ، فأنت بهذا الوصف لا يكفي لتنال به المرتبة السامية إلا إذا كانت أفعالك تؤدي بك إلى التقوى . فلا تقل : " أنا مؤمن " ويقول غيرك : " أنا مؤمن " ، ويصبح المؤمنون ملياراً من البشر في العالم ، نقول لهؤلاء : أنتم لن تأخذوا الإيمان بالاسم وإنما تأخذون الإيمان بالالتزام بمنهج السماء . ولذلك لم يقل الله : " والذين آمنوا فوقهم يوم القيامة " وإنما قال : { وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [ البقرة : 212 ] ليعزل الاسم عن الوصف . ويذيل الحق الآية بالقول الكريم : { وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ البقرة : 212 ] . ما هو الرزق ؟ الرزق عند القوم : هو كل ما ينتفع به فكل شيء تنتفع به هو رزق . وطبقا لهذا التعريف فاللصوص يعتبرون الحرام رزقاً ، ولكنه رزق حرام . والناس يقصرون كلمة الرزق على شيء واحد يشغل بالهم دائماً وهو " المال " نقول لهم : لا ، إن الرزق هو كل ما يُنتفع به ، فكل شيء يكون مجاله الانتفاع يدخل في الرزق : علمك رزق ، وخُلُقُك رزق ، وجاهك رزق ، وكل شيء تنتفع به هو رزق . ساعة تقول : إن كل ذلك رزق تأخذ قول الله : { فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ … } [ النحل : 71 ] . كأن الله يريد من خلقه استطراق أرزاقهم على غيرهم ، وكل إنسان متميز وتزيد عنده حاجة عليه أن يردها على الناس ، لكن الناس لا تفهم الرزق إلا على أنه مال ، ولا يفهمون أنه يطلق على كل شيء ينتفعون به . إذا كان الأمر كذلك فما معنى { يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ البقرة : 212 ] كلمة " بغير حساب " لابد أن نفهمها على أن الحساب يقتضي مُحاسِب ، ومُحَاسَب ، ومُحَاسَب عليه . وعلى هذا يكون " بغير حساب " ممن ولمن وفي ماذا ؟ إنه رزق بغير حساب من الله فقد يرزقك الله على قدر سعيك ، وربما أكثر ، وهو يرزق بغير حساب ، لأنه لا توجد سلطة أعلى منه تقول له : لماذا أعطيت فلاناً أكثر مما يستحق . وهو يرزق بغير حساب لأن خزائنه لا تنفد . ويرزق بغير حساب لأنه لا يحكمه قانون ، وإنما يعطي بطلاقة القدرة . إنه جل وعلا يعطي للكافر حتى تتعجب أنت وتقول : يعطي الكافر ولا يعطي المؤمن لماذا ؟ إذا استطاع أحد أن يحاسبه فليسأل لماذا يفعل ذلك ؟ إنه يعطي مقابلاً للحسنة سبعمائة ضعف بغير حساب . إن الحساب إنما يأتي عندما تأخذ معدوداً ، فإذا أخذت مثلاً مائة من ألف فأنت طرحت معدوداً من معدود فلا بد أن ينقص ، وعندما تراه ينقص فأنت تخاف من العطاء . لكن الله بخلاف ذلك ، إنه يعطي معدوداً من غير معدود . إذن ساعة تقرأ " بغير حساب " فقل إن الحساب إن كان واقعاً من الله على الغير ، فهو لا يعطي على قدر العمل بل يزيد ، ولن يحاسب نفسه ولن يُحاسبه أحد . { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ } [ النحل : 96 ] . إذن { يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ البقرة : 212 ] تجعل كل إنسان يلزم أدبه إن رأى غيره قد رُزق أكثر منه لأنه لا يعلم حكمة الله فيها . وهناك أناس كثيرون عندما يعطيهم الله نعمة يقولون : " ربنا أكرمنا " ، وعندما يسلبهم النعمة يقولون : " ربنا أهاننا " ، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى : { فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَهَانَنِ } [ الفجر : 15 - 16 ] . كلا . مخطئ أنت يا مَن اعتبرت النعمة إكراما من الله ، وأنت مخطئ أيضاً يا مَن اعتبرت سلب النعمة إهانة من الله إن النعمة لا تكون إكراماً من الله إلا إذا وفقك الله في حسن التصرف في هذه النعمة ، ولا تكون النعمة إهانة إلا إذا لم يوفقك الله في أداء حق النعمة ، وحق النعمة في كل حال يكون بشكر المنعم ، وعدم الانشغال بها عمن رزقك إياها . ونحب أن نفهم أيضاً أن قول الله سبحانه وتعالى : { وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ البقرة : 212 ] ينسحب على معنى آخر ، وهو أنه - سبحانه - لا يحب أن تُقَدِّرَ أنت رزقك بحساب حركة عملك فقط فحساب حركة عملك قد يخطئ . مثال ذلك الفلاح الذي يزرع ويقدر رزقه فيما يُنْتَجُ من الأرض ، وربما جاءت آفة تذهب بكل شيء كما نلاحظ ونشاهد ، ويصبح رزق الفلاح في ذلك الوقت من مكان آخر لم يدخل في حسابه أبداً . ولهذا فإن على الإنسان أن يعمل في الأسباب ، ولكنه لا يأخذ حساباً من الأسباب ، ويظن أن ذلك هو رزق لأن الرزق قد يأتي من طريق لم يدخل في حسابك ولا في حساباتك ، وقال الحق في ذلك : { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 - 3 ] . وبعد ذلك يقول لنا الحق سبحانه وتعالى في آية أخرى ما يوضح لنا ويبين قضية العقيدة وموكب الرسالات في الأرض ، بداية وتسلسلاً وتتابعاً في رسل متعاقبين ، فقال الحق سبحانه : { كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ … } .