Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 214-214)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أي أظننتم أنكم تدخلون الجنة بدون ابتلاءات تحدث لكم ؟ إن الحق سبحانه ينفي هذا الظن ويقول : ليس الأمر كذلك ، بل لابد من تحمل تبعات الإيمان ، فلو كان الإيمان بالقول لكان الأمر سهلاً ، ولكن الذي يُصَعِبُ الإيمان هو العمل ، أي حمل النفس على منهج الإيمان . لقد استكبر بعض من الذي عاصروا محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقولوا : " لا إله إلا الله " لأنهم فهموا مطلوبها لأن الأمر لو اقتصر على مجرد كلمة تقال بلا رصيد من عمل يؤيدها ، لكان أسهل عليهم أن يقولوها ، لكنهم كانوا لا يقولون إلا الكلمة بحقها ، ولذلك أيقنوا تماماً أنهم لو قالوا : " لا إله إلا الله " لانتهت كل معتقداتهم السابقة ، لكنهم لم يقولوها لأنهم أبوا وامتنعوا عن القيام بحقها وأداء مطلوبها . إن الحق يقول : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ } [ البقرة : 214 ] فما العلاقة بين هذه الآية وما سبق من الآيات ؟ لقد كان الحديث عن بني إسرائيل الذين حسبوا أنهم يدخلون الجنة بدون أن يبتلوا ، وصارت لهم أهواء يحرفون بها المنهج . أما أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعليهم أن يستعدوا للابتلاء ، وأن يعرفوا كيف يتحملون الصعاب . ونحن نعرف في النحو أن هناك أدوات نفي وجزم ومن أدوات النفي " لم " و " لما " فعندما نقول : " لم يحضر زيد " فهذا حديث في الماضي ، ومن الجائز أن يحضر الآن . ولكن إذا قلت : " لما يحضر زيد " فالنفي مستمر حتى الآن ، أي أنه لم يأتي حتى ساعة الكلام لكن حضوره ومجيئه متوقع . ولذلك يقول الحق : { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ … } [ الحجرات : 14 ] . وعندما سمع الأعراب ذلك قالوا : نحمد الله ، فما زال هناك أمل أن نؤمن . لقد أراد الله أن يكون الأعراب صادقين مع أنفسهم ، وقد نزلت هذه الآية كما يقول بعض المفسرين في قوم من بني أسد ، جاءوا إلى المدينة في سنة جدب ، وأعلنوا الشهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ، وكانوا يطلبون الصدقة ، ويحاولون أن يمنوا على الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم لم يقاتلوه كما فعل غيرهم ، فجاءت هذه الآية لتوضح أن الإيمان درجة أرقى من إظهار الإسلام . لكن ذلك لا يعني أنهم منافقون ، ولذلك يوضح القرآن الكريم أن إظهار الإسلام لا يعني الإيمان لأن الإيمان عملية قلبية . لقد أعلنوا الخضوع لله ، وأرادوا أن يقوموا بأعمال المسلمين نفسها لكن ليس هذا هو كل الإيمان . وهم قالوا : " آمنا " فقال الحق لهم : لا لم تؤمنوا وكونوا صادقين مع أنفسكم فالإيمان عملية قلبية ، ولا يقال إنك آمنت لأنها مسألة في قلبك ، ولكن قل أسلمت ، أي خضعت وفعلت مثلما يفعل المؤمنون ، فهل فعلت ذلك عن إيمان أو غير إيمان ، إن ذلك هو موضوع آخر . هنا تقول الآية : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } [ البقرة : 214 ] أي لا يمكن أن تدخلوا الجنة إلا إذا جاءكم من الابتلاء مثل من سبقكم من الأمم ولا بد أن تُفتنوا وأن تُمحصوا ببأساء وضراء ، ومن يثبت بعد ذلك فهو يستحق أن يدخل الجنة ، فلا تظنوا أنكم أمة متميزة عن غيركم في أمر الاختبار ، فأنتم لن تدخلوا الجنة بلا ابتلاء ، بل على العكس سيكون لكم الابتلاء على قدر النعماء . أنتم ستأخذون مكانة عالية في الأمم ولذلك لا بد أن يكون ابتلاؤكم على قدر مكانتكم ، فإن كنتم ذوي مكانة عالية وستحملون الرسالة الخاتمة وتنساحون في الدنيا فلا بد أن يكون ابتلاؤكم على قدر عظمة مسئوليتكم ومهمتكم . { وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ } [ البقرة : 214 ] إن قول الله : " ولما " يفيد بأن ما حدث للذين من قبلهم من ابتلاء عليهم سيقع على المؤمنين مثله . وعندما نتأمل قوله الحق : " وزلزلوا " فأنت تكتشف خاصية فريدة في اللغة العربية ، هذه الخاصية هي تعبير الصوت عن واقعية الحركة ، فكلمة " زلزلوا " أصلها زلزلة ، وهذه الكلمة لها مقطعان هما " زل ، زل " . و " زل " : أي سقط عن مكانه ، أو وقع من مكانه ، والثانية لها المعنى نفسه أيضاً ، أي وقع من مكانه ، فالكلمة تعطينا معنى الوقوع المتكرر : وقوع أول ، ووقوع ثانٍ ، والوقوع الثاني ليس امتداداً للوقوع الأول ولكنه في اتجاه معاكس ، فلو كانت في اتجاه واحد لجاءت رتيبة ، إن الزلة الثانية تأتي عكس الزلة الأولى في الاتجاه ، فكأنها سقوط جهة اليمين مرة ، وجهة الشمال مرة أخرى . ومثل ذلك " الخلخلة " أي حركة في اتجاهين معاكسين " خَلّ " الأولى جهة اليمين ، و " خَلّ " الثانية جهة اليسار ، وبهذا تستمر الخلخلة . وهكذا " الزلزلة " تحمل داخلها تغير الاتجاه الذي يُسمى في الحركة بالقصور الذاتي . والمثال على ذلك هو ما يحدث للإنسان عندما يكون راكباً سيارة ، وبعد ذلك يأتي قائد السيارة فيعوقها بالكابح " الفرامل " بقوة ، عندئذ يندفع الراكب للأمام مرة ، ثم للخلف مرة أخرى ، وربما تكسر زجاج السيارة الأمامي حسب قوة الاندفاع ما الذي تسبب في هذا الاندفاع ؟ إن السبب هو أن جسم الراكب كان مهيأ لأن يسير للأمام والسائق أوقف السيارة والراكب لا يزال مهيأ للسير للأمام ، فهو يرتج ، وقد يصطدم بأجزاء السيارة الداخلية عند وقوفها فجأة . وعملية " الزلزلة " مثل ذلك تماماً ، ففيها يصاب الشيء بالارتجاج للأمام والخلف ، أو لليمين واليسار ، وفي أي جهتين متعاكستين . و " وزلزلوا " يعني أصابتهم الفاجعة الكبرى ، الملهية ، المتكررة ، وهي لا تتكرر على نمط واحد ، إنما يتعدد تكرارها ، فمرة يأخذها الإيمان ، ثم تأخذها المصائب والأحداث ، وتتكرر المسألة حتى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه : { مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ } [ البقرة : 214 ] ؟ ويأتي بعده القول : { أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] فهل يتساءلون أولاً ، ثم يثوبون إلى رشدهم ويردون على أنفسهم { أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] أم أن ذلك إيضاح بأن المسألة تتأرجح بين { مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ } [ البقرة : 214 ] وبين { أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] ؟ . لقد بلغ الموقف في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاختيار والابتلاء إلى القمة ، ومع ذلك واصل الرسول صلى الله عليه وسلم والذين معه الاستمساك بالإيمان . لقد مستهم البأساء والضراء وزلزلوا ، أي أصابتهم رجفة عنيفة هزتهم ، حتى وصل الأمر من أثر هذه الهزة أن { يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] . إن مجيء الأسلوب بهذا الشكل { مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ } [ البقرة : 214 ] يعني استبطاء مجيء النصر أولاً ، ثم التبشير من بعد ذلك في قوله الحق : { أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] . ولم يكن ذلك للشك والارتياب فيه . وهذا الاستبطاء ، ثم التبشير كان من ضمن الزلزلة الكبيرة ، فقد اختلطت الأفكار : أناس يقولون : { مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ } [ البقرة : 214 ] فإذا بصوت آخر من المعركة يرد عليهم قائلاً : { أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] . وسياق الآية يقتضي أن الذين قالوا : { مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ } [ البقرة : 214 ] هم الصحابة ، وأن الذي قال : { أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] هو رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم ينتقل الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك إلى قضية أخرى ، هذه القضية شاعت في هذه الصورة وهي ظاهرة سؤال المؤمنين عن الأشياء ، وهي ظاهرة إيمانية صحية ، وكان في استطاعة المؤمنين ألا يسألوا عن أشياء لم يأتي فيها تكليف إيماني خوفاً من أن يكون في الإجابة عنها تقييد للحركة ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه " . ورغم ذلك كانوا يسألون عن أدق تفاصيل الحياة ، وكانت هذه الظاهرة تؤكد أنهم عشقوا التكليف من الله فهم يريدون أن يبنوا كل تصرفاتهم بناءً إسلامياً ، ويريدون أن يسألوا عن حكم الإسلام في كل عمل ليعملوا على أساسه . يقول الحق سبحانه وتعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ … } .