Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 249-249)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الفصل هو أن تعزل شيئا عن شيء آخر ، ومثل ذلك قوله تعالى : { وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ … } [ يوسف : 94 ] . " فصلت العير " أي غادرت مصر وخرجت منه . ونحن نستخدم كلمة " فصل " في تبويب الكتب ، ونقصد به قدراً من المعلومات المترابطة التي تكون وحدة واحدة ، وعندما تنضم الفصول مع بعضها في الكتب تصير أبواباً ، وعندما تنظم الأبواب الموضوعة في مجال علم واحد مع بعضها نقول عنها : هذا " كتاب " . ونحن نستخدم كلمة " فصل " في وصف مجموعة من التلاميذ المتقاربين في العمر والمستوى الدراسي ونقسمهم إلى فصل أول وثانٍ وثالث ، على حسب سعة الفصول وعدد التلاميذ . وهكذا نفهم معنى قول الحق : { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ } [ البقرة : 249 ] أي فصلهم عن بقية غير المقاتلين ، وقسمهم إلى جماعات مرتبة ، وكل جماعة لها مهمة . وكلمة " جنود " هي جمع " جند " وهي مفردة لكنها تدل على جماعة ، وأصل الكلمة من " جَنَد " وهي الأرض الغليظة الصلبة القوية ، ونظراً لأن الجنود مفروض فيهم الغلظة والقوة فقد أُطلق عليهم لفظ : جُنْد . وبرغم أن كلمة " جند " مفرد إلا أنها تدل على القوم مثل " رهط " و " طائفة " ويسمونها اسم جمع . { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ } [ البقرة : 249 ] أي عندما خرج إلى مكان إقامة الجيش بدأ في مباشرة أولى مهماته كملك ، لقد أراد أن يختبرهم ، فهم قوم وقفوا ضد تعيينه ملكاً ، لذلك أراد أن يدخل الحكم على أرض صلبة . فقال لهم عن الحق : { إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 249 ] . لقد أوضح لهم : أنتم مقبلون على مهمة لله في سبيل الله ، وهو سبحانه الذي سيجري عليكم الاختبار ، ولست أنا لأن الاختبار يكون على قدر المهمة أنا مشرف فقط على تنفيذ الأمر ، والله مبتليكم بنهر من يشرب منه فليس منا إلا من اغترف غرفة بيده . وساعة تسمع كلمة " مبتليكم " فلا تفسرها على أنها مصيبة ، ولكن فسرها على أنها اختبار ، قد ينجح من يدخل وقد يفشل . والاختبار هنا بنهر . وما دام كان الاختبار بنهر فلا بد أن لهذه الكلمة موقعاً وأثراً نفسيا عندهم ، لابد أنهم كانوا عِطاشا ، وإلا لو لم يكونوا عِطاشاً لما كان النهر ابتلاء . { إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } [ البقرة : 249 ] . إنهم عطاش ، وساعة يُرى الماء فسيقبلون عليه بنهم شرباً ورياً ، ومع ذلك يختبر الحق صلابتهم فيطالبهم بأن يمتنعوا عن الشرب منه ، لقد جاء الاختبار في منعهم مما تصبو إليه نفوسهم . { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } [ البقرة : 249 ] لماذا ؟ لأنهم ساعة يرون ما يحبونه ويشتهونه فسيندفعون إليه وينسون أمر الله . ومن ينس أمر الله ويفضل نفسه ، فهو غير مأمون أن يكون في جند الله . لكن الذي يرى الماء ويمتنع عنه وهو في حاجة إليه ، فهو صابر قادر على نفسه ، وسيكون من جند الله ، لأنه آثر مطلوب الله على مطلوب بطنه ، وهو أهل لأن يُبتلى . ومع ذلك لم يَقْسُ الله في الابتلاء ، فأباح ما يفك العطش ولم يحرمهم منه نهائياً . { إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } [ البقرة : 249 ] لقد سمح لهم بغرفة يد تسد الرمق وتستبقي الحياة ، أباح لهم ما تقتضيه الضرورة . لكن ما صلة هذا الابتلاء بالعملية التي سيقبلون عليها ؟ إن العملية الحربية التي سيدخلونها سيقابلون فيه الويل وسيعرضون لنفاد الزاد ، وهم أيضاً عرضة لأن يحاصرهم عدوهم ، وعلى الإنسان المقاتل في مثل هذه الأمور أن يقوى على شهوته ويأخذ من زاده ومائه على قدر ضرورة استبقاء الحياة ، لذلك تكفي غرفة واحدة لاستبقاء الحياة . كأن التدريب هنا ضرورة للمهمة . فهل فعلوا ذلك ؟ يأتينا الخبر من الحق { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 249 ] . وهكذا تتم التصفية ، ففي البداية سبق لهم أن تولوا وأعرضوا عن القتال إلا قليلاً ، وهنا امتنع عن الشرب قليل من القليل ، وهذه غرابيل الاصطفاء أو مصافي الاختبار ، فقد يقوى واحد على نصف المشقة ، ويقوى آخر على ثلث المشقة ، ويقوى ثالث على ربعها . لقد بقي منهم القليل ، لكنه القليل الذي يصلح للمهمة إنّه الذي ظل على الإيمان . وانظر كيف تكون مصافي الابتلاء في الجهاد في سبيل الله ؟ حتى لا يحمل راية الجهاد إلا المأمون عليها الذي يعرف حقها . { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } [ البقرة : 249 ] أي عندما عبروا النهر واجتازوا كل الاختبارات السابقة قال بعضهم : { لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } [ البقرة : 249 ] لقد خاف بعض منهم من الاختبار الأخير ، ولكن الذين آمنوا بالله لم يخافوا ، ويقول الحق : { قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } [ البقرة : 249 ] . لقد اختلفت المواجيد وإن اتحدت المرائي . فالذين جاوزوا النهر انقسموا قسمين ، قسم رأى جالوت وجنوده ، والقسم الآخر رأوه أيضاً ، ولم ينقسموا عند الرؤية لكنهم انقسموا عند المواجيد التابعة للرؤية ، فقسم خاف وقسم لم يخف ، والذين خافوا قالوا : { لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } [ البقرة : 249 ] لقد وجد الخوف من جالوت وجنوده في نفوسهم فقالوا : { لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } [ البقرة : 249 ] ، لقد مروا بثلاث مراحل المرحلة الأولى : هي إدراك لجالوت وجنوده ، والثانية : هي وجدان متوجس من قوة جالوت وجنوده ، والأخيرة : هي نزوع إلى الخوف من جالوت وجنوده ، لكن القسم الذي لم يخف رأوا المشهد أيضاً وجاء فيهم قول الله : { قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 249 ] . كأنهم أدخلوا ربهم في حسابهم فاستهانوا بعدوهم ، لكن الفئة السابقة عزلت نفسها عن ربها فرأوا أنفسهم قلة فخافوا . لقد كان مجرد ظن الفئة المؤمنة أنهم ملاقو الله قد جعل لهم هذه العقيدة ، وإذا كان هذا حال مجرد الظن فما بالك باليقين ؟ { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } [ البقرة : 249 ] . ونعرف أن هناك معارك يفوز فيها الأقدر على الصبر ، ودليلنا على ذلك قول الحق : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُنزَلِينَ } [ آل عمران : 124 ] . هذا هو الوعد لكن إذا صبرتم كم يكون المدد ؟ يقول الحق : { بَلَىۤ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاۤفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] . فكأن البدء بثلاثة آلاف لمساندة أهل الإيمان ويزيد العدد في المدد إلى خمسة آلاف إن صبروا واتقوا . إذن فالمدد يأتي على قدر الصبر لأن حنان القدرة الإلهية عليك يزداد ساعة يجدك تتحمل المشقة فَيَحِن عليك ويعطيك جزءاً أكبر . فالله يريد من عبده أن يستنفد أسباب قوته الخاصة ، وحين تستنفد الأسباب برجولة وثبات ، تأتيك معونة الله ، ويقول الله لملائكته : هذا يستحق أن يعان فأعينوه . ولذلك جاء قوله الحق على ألسنة المؤمنين : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } [ البقرة : 249 ] . ويقول الحق بعد ذلك : { وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً … } .