Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 254-254)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ونحن نعرف أن كل نداء من الحق يبدأ بقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } [ البقرة : 254 ] إنما يدل على أن ما يأتي من بعد هذا القول هو تكليف لمن آمن بالله ، وليس تكليفاً للناس على إطلاقهم لأن الله لا يكلف من كفر به ، إنما يكلف الله من آمن به ، ومن اجتاز ذلك وأصبح في اليقين الإيماني فهو أهل لمخاطبة الله له ، فكأنه يجد في القول الرباني نداء يقول له : يا من آمن بي إلهاً حكيماً قادراً مشرعاً لك ، أنا أريد منك أن تفعل هذا الأمر . إذن الإيمان بالله هو حيثية كل حكم ، فأنت تفعل ذلك لماذا ؟ لا تقل : لأن حكمته كذا وكذا . لا . ولكن قل : لأن الله الذي آمنت به أمرني بهذه الأفعال ، سواء فهمت الحكمة منها أو لم تفهمها ، بل ربما كان إقبالك على أمر أمرك الله به وأنت لا تفهم له حكمة أشد في الإيمان من تنفيذك لأمر تعرف حكمته . ولو أن إنساناً قال له الطبيب : إن الخمر التي تشربها تفسد كبدك وتعمل فيك كذا وكذا ، وبعد ذلك امتنع عن الخمر ، صحيح أن امتناعه عن الخمر صادف طاعة لله ، لكن هل هو امتنع لأن الله قال ؟ لا ، لم يمتنع لأن الله قال ، ولكنه امتنع لأن الطبيب قال ، فإيمانه بالطبيب أكثر من إيمانه برب الطبيب . أما المؤمن فيقول : أنا لا أشرب الخمر لأن الله قد حرمها ، ولماذا انتظر حتى يقول لي الطبيب : إن كبدك سيضيع بسبب الخمر ، فالرحمة هي ألا يجيء الداء . إن الحق يقول : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم } [ البقرة : 254 ] أي أنا لا أطلب منكم أن تنفقوا عليّ ، ولكن أنفقوا من رزقي عليكم لأن الرزق يأتي من حركة الإنسان ، وحركة الإنسان تحتاج طاقة تتحرك في شيء أو مادة ، وهذه الحركة تأتي على ترتيب فكر ، وهذا الفكر رتبه من خلقه ، والجوارح التي تنفعل ، واليد التي تتحرك ، والرِّجل التي تمشي خلقها الله ، والمادة التي تفعل بها مخلوقة لله . وسنأخذ الزارع نموذجاً ، نجد أن الأرض التي فيها العناصر مخلوقة لله ، إذن فالإنسان يعمل بالعقل الذي خلقه الله ، ويخطط بالجوارح التي خلقها الله لتأتي له بالطاقة التي يعمل بها في المادة التي خلقها الله لتعطي للإنسان خيرها … فأي شيء للإنسان إذن ؟ ومع ذلك إن حصل للإنسان خير من هذا كله فهو سبحانه لا يقول : " إنه لي " بل أمنحه لك أيها الإنسان ، ولكن أعطني حقي فيه ، وحقي لن آخذه لي ولكن هو لأخيك المسكين ، والحق يقول : { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } [ الذاريات : 57 ] . وإياك أن تقول : وما دخلي أنا بالمسكين ؟ عليك أن تعلم أنّ المسكنة عَرَض ، والعرض من الممكن أن يلحق بك أنت . فلا تُقدِّر أنك معطٍ دائما ، ولكن قدر أنك ربما حدث لك ما يجعلك تأخذ لاَ أنْ تعطي . الحق يقول لك : أعط المسكين وأنت غني لأنه سبحانه سيقول للناس : أن يعطوك وأنت فقير ، فقدِّر حكم الله ساعة يُطلب منك ، ليحميك ساعة أن يُطلب لك ، وبذلك تتوازن المسألة . ومع أنه سبحانه هو الذي يرزق ، فهو يريد منكم أيها العباد أن تتعاونوا وأن يحب بعضكم بعضاً ، حتى تُمحى الضغائن من قلوبكم لأن الإنسان الضعيف - ضعفاً طبيعياً وليس ضعيف التسول أو الكسل أو الاحتراف ، بل ضعف عدم القدرة على العمل - هو مسئولية المؤمنين ، فسبحانه وتعالى يجعل القوي مسئولاً أن يساعدك وأنت ضعيف . وأنت حين ترى - وأنت ضعيف لا تقدر - الأقوياء الذين قدروا لم ينسوك ، وذكروك بما عندهم ، عندئذ تعلم أنك في بيئة متساندة تحب لك الخير ، فإن رأيت نعمة تنالك إن عجزت فأنت لا تحسدها أبداً ، ولا تحقد على معطيها ، بل تتمنى من حلاوة وقعها في نفسك - لأنها جاءتك عن حاجة - تتمنى لو أن الله قدرك لتردها ، فيكون المجتمع مجتمعاً متكافلاً متضامناً . فحين يقول الله تعالى : { أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم } [ البقرة : 254 ] فأنتم لا تتبرعون لذات الله بل تنفقون مما رزقكم ، ومن فضل الله عليكم أنه احترم أثر عملكم ونسبه لكم حتى وإن احتاج أخوك ، فهو سبحانه يقول : { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ البقرة : 245 ] . إن الحق سبحانه قد اعتبر النفقة في سبيل الله هي قرض من العبد للرب الخالق الوهاب لكل رزق . وحتى نفهم معنى النفقة أقول : قد قلنا من قبل : إن الكلمة مأخوذة من مادة " النون والفاء والقاف " ، ويقال : نفقت السوق أي انتهت بسرعة وتم تبادل البضائع فيها بالأثمان المقررة لها ، ونحن نعرف أن التجارة تعني مقايضة بين سلع وأثمان . والسلعة هي ما يستفاد بها مباشرة . والثمن ما لا يستفاد به مباشرة . فعندما تكون جائعاً أيغنيك أن يكون عندك جبل من ذهب ؟ إن هذا الجبل من الذهب أنت لا تستفيد منه مباشرة ، أما فائدتك من رغيف الخبز فهي استفادة مباشرة ، وكذلك كوب الماء الممتلئ ، تستفيد منه مباشرة ، والملابس التي ترتديها أنت تستفيد منها مباشرة . إذن فالذي يستفاد منه مباشرة اسمه سلعة ، والذي لا يستفاد منه مباشرة نسميه ثمناً . ولذلك يقول لنا الحق إنذاراً وتحذيراً من الاعتزاز بالمال : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَٱلْكَافِرُونَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } [ البقرة : 254 ] . إن الحق سبحانه ينبهنا أن ننفق من رزقه لنا من قبل أن يأتي اليوم الآخر الذي لا بيع فيه أي لا مجال فيه لاستبدال أثمان بسلع أو العكس ، وأيضاً لا يكون في هذا اليوم " خُلة " ، ومعنى " خلة هي الود الخالص ، وهي العلاقة التي تقوم بين اثنين فيصير كل منهما موصلاً بالآخر بالمحبة لأن كُلاًّ منكما منفصل عن الآخر ، وإن ربطت بينكم العاطفة وفي الآخرة سيكون كل إنسان مشغولاً بأمر نفسه . إن اليوم الآخر ليس فيه بيع ولا شراء ولا فيه خلة ولا شفاعة ، وهذه هي المنافذ التي يمكن للإنسان أن يستند عليها . فأنت لا تملك ثمنا تشتري به ، ولا يملك غيرك سلعة في الآخرة ، إذن فهذا الباب قد سد . وكذلك لا يوجد خلة أو شفاعة ، والشفاعة هذه مأذون فيها . إن كانت ممن أذن له الله أن يشفع فهي في يد الله ، ومعنى " شفيع " مأخوذة من الشفع والوتر . الوتر واحد والشفع اثنان ، فكأن الشفيع يضم صوته لصوتي لنقضي هذه الحاجة عند فلان . فيتشفع الإنسان بإنسان له جاه عند المشفوع عنده حتى ينفذ له ما يطلب . ولكن هذه الوسائل في الآخرة غير موجودة . فلا بيع ولا خلة ولا شفاعة فأنتم إذا أنفقتم اتقيتم ذلك اليوم ، فانتهزوا الفرصة من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة . وهذه هي أبواب النجاة المظنونة عند البشر التي تُغلق في هذا اليوم العظيم . وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول : أنا لم أفوت فرصة على خلقي خلقي هم الذين ظلموا أنفسهم ووقفوا أنفسهم هذا الموقف ، فأنا لم أظلمهم . لذلك يذيل الحق الآية بقوله : { وَٱلْكَافِرُونَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } [ البقرة : 254 ] . وبعد أن تكلم الله سبحانه وتعالى عن الرسل ، وعن الاختلاف ، وعن القتال لتثبيت منهج الحق ، وعن الإنفاق ، يوضح لنا التصور الإيماني الصحيح الذي في ضوئه جاءت كل هذه المسائل . فقد جاء موكب الرسالات كلها من أجل هذا المنهج فقال سبحانه : { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ … } .