Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 25-25)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وبعد أن بيَّن الله سبحانه وتعالى لنا مصير الكافرين الذين يشككون في القرآن ليتخذوا من ذلك عذراً لعدم الإيمان ، قال : إذا كنتم قد اخترتم عدم الإيمان ، بما أعطيتكم من اختيار في الدنيا ، فإنكم في الآخرة لن تستطيعوا أن تتقوا النار ، ولن تكون لكم إرادة . ثم يأتي الحق تبارك وتعالى بالصورة المقابلة . والقرآن الكريم إذا ذكرت الجنة يأتي الله بعدها بالصورة المقابلة وهي العذاب بالنار . وإذا ذكرت النار بعذابها ولهيبها ذكرت بعدها الجنة . وهذه الصورة المتقابلة لها تأثير على دفع الإيمان في النفوس ، فإذا قرأ الإنسان وصفاً للعذاب ، ثم جاء بعد ذلك النعيم فإنه يعرف أنه قد فاز مرتين ، فالذي يُزَحزَح عن النار ولا يدخلها يكون ذلك فوزاً ونعمة ، فإذا دخل الجنة تكون نعمة أخرى ، ولذلك فإن الله تعالى يقول : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ … } [ آل عمران : 185 ] . ولم يقل سبحانه : ومَنْ أدخل الجنة فقد فاز لأن مجرد أن تزحزح عن النار فوز عظيم … وفي الآخرة . وبعد الحساب يُضْرَب الصراط فوق جهنم ، ويعبر من فوقه المؤمنون والكافرون . فالمؤمنون يجتازون الصراط المستقيم كل حسب عمله منهم مَنْ يمر بسرعة البرق ، ومنهم مَنْ يمر أكثر بُطأً … وهكذا ، والكافرون يسقطون في النار . ولكن لماذا يمر المؤمنون فوق الصراط . والله سبحانه وتعالى قال : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } [ مريم : 71 - 72 ] . لأن مجرد رؤية المؤمنين لجهنم نعمة كبرى ، فحين يرون العذاب الرهيب الذي أنجاهم الإيمان منه يحس كل منهم بنعمة الله عليه . أنه أنجاه من هذا العذاب ، وأهل النار وأهل الجنة يرى بعضهم بعضاً ، فأهل الجنة حينما يرون أهل النار يحسون بعظيم نعمة الله عليهم إذ أنجاهم منها ، وأهل النار حين يرون أهل الجنة يحسون بعظيم غضب الله عليهم أن حرمهم من نعيمه ، فكأن هذه الرؤية نعيم لأهل الجنة وزيادة في العذاب لأهل النار … والله سبحانه وتعالى يقول : { وَبَشِّرِ … } [ البقرة : 25 ] والبشارة هي الإخبار بشيء سار قادم لم يأت وقته بعد . فأنت إذا بشرت إنساناً بشيء أعلنته بشيء سار قادم . والبشارة هنا جاءت بعد الوعيد للكافرين . والإنذار هو إخبار بأمر مخيف . لم يأت وقته بعد . ولكن البشارة تأتي أحياناً في القرآن الكريم ويقصد بها الكفار . واقرأ قوله تعالى : { وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ ٱللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الجاثية : 7 - 8 ] . البشارة هنا تهكمية من الله سبحانه وتعالى ، فالحق تبارك وتعالى يريد أن يزيد عذاب الكفار ، فعندما يسمعون كلمة " فبشرهم " يعتقدون أنهم سيسمعون خبراً ساراً ، فيأتي بعدها العذاب الأليم ليزيدهم غماً على غم . يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ … } [ البقرة : 25 ] . البشرى هنا إعلام بخير قادم للمؤمنين ، والإيمان هو الرصيد القلبي للسلوك لأن مَنْ يؤمن بقضية يعمل من أجلها ، التلميذ يذاكر لأنه مؤمن أنه سينجح ، وكل عمل سلوكي لابد أن يوجد من ينبوع عقيدي . والإيمان أن تنسجم حركة الحياة مع ما في القلب وفق مراد الله سبحانه وتعالى ، ونظام الحياة لا يقوم إلا على إيمان … فكأن العمل الصالح ينبوعه الإيمان . ولذلك يقول القرآن الكريم : { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ … } [ العصر : 1 - 3 ] . وفي آية أخرى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [ فصلت : 33 ] . ولكن هل يكفي الإعلان عن كوني من المسلمين ؟ لا … بل لابد أن يقترن هذا الإعلان بالعمل بمرادات الله سبحانه وتعالى . الحق سبحانه وتعالى يُريدُ أن يلفتنا إلى أن قولنا : " لا إله إلا الله محمد رسول الله " لابد أن يصاحبه عمل بمنهج الإسلام … ذلك أن نطقنا بالشهادة لا يزيد في ملك الله شيئاً … فالله تبارك وتعالى شهد بوحدانية ألوهيته لنفسه ، وهذه شهادة الذات للذات … ثم شهد الملائكة شهادة مشهد لأنهم يرونه سبحانه وتعالى ، ثم شهد أولو العلم شهادة دليل بما فتح عليهم الله جل جلاله من علم … وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [ آل عمران : 18 ] . ولكن الحق سبحانه وتعالى يريد من المؤمنين أن يعملوا بالمنهج … لماذا ؟ حتى لا تتعاند حركة الحياة بل تتساند … وما دامت حركة الحياة مستقيمة ، فإنها تصبح حياة متساندة وقوية ، وعندما انتشر الإسلام في بقاع الأرض لم يكن الهدف أن يؤمن الناس فقط لمجرد الإيمان ، ولكن لابد أن تنسجم حركة الحياة مع منهج الإسلام … فإذا ابتعدت حركة الحياة عن المنهج حينئذ لا يخدم قضية الدين أن يؤمن الناس أو لا يؤمنوا … ولذلك لابد أن ينص على الإيمان والعمل الصالح … { وٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [ البقرة : 25 ] … والصالحات هي جمع صالحة والصالحة هي الأمر المستقيم مع المنهج ، وضدها الفساد … وحين يستقبل الإنسان الوجود ، فإن أقل الصالحات هو أن يترك الصالح على صلاحه أو يزيده صلاحاً . الحق تبارك وتعالى يبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات بجنات تجري من تحتها الأنهار … والجنات جمع جنة ، وهي جمع لأنها كثيرة ومتنوعة ، وهناك درجات في كل جنة أكثر من الدنيا … واقرأ قوله تبارك وتعالى : { ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 21 ] . الجنات نفسها متنوعة . . فهناك جنات الفردوس ، وجنات عَدْن ، وجنات نعيم ، وهناك دار الخلد ، ودار السلام ، وجنة المأوى … وهناك عِلِّيُون الذي هو أعلى وأفضل الجنات ، وأعلى ما فيها التمتع برؤية الحق تبارك وتعالى … وهو نعيم يعلو كثيراً عن أي نعيم في الطعام والشراب في الدنيا . والطعام والشراب بالنسبة لأهل الجنة لا يكون عن جوع أو ظمأ ، وإنما عن مجرد الرغبة والتمتع . والله جل جلاله في هذه الآية يَعِدُ بأمرٍ غيبي ، ولذلك فإنه لكي يُقَرِّبَ المعنى إلى ذهن البشر لابد من استخدام ألفاظ مشهودة وموجودة أي : عن واقع نشهده . واقرأ ، قوله تبارك وتعالى : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ السجدة : 17 ] . إذن : ما هو موجود في الجنة لا تعلمه نفس في الدنيا … ولا يوجد لفظ في اللغة يُعَبِّرُ عنه ، ولا ملكة من ملكات المعرفة كالسمع والنظر قد رأته ، ولذلك استخدم الحق تبارك وتعالى الألفاظ التي تتناسب مع عقولنا وإدراكنا … فقال تعالى : { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ … } [ البقرة : 25 ] . على أن هناك آيات أخرى تقول : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ … } [ التوبة : 100 ] ما الفرق بين الاثنين ؟ قوله تعالى : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ … } [ التوبة : 100 ] أي : أن نبع الماء من مكان بعيد وهو يمر من تحتها … أما قوله تعالى : { مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ … } [ البقرة : 25 ] فكأن الأنهار تنبع تحتها … حتى لا يخاف إنسان من أن الماء الذي يأتي من بعيد يقطع عنه أو يجف … وهذه زيادة لاطمئنان المؤمنين أن نعيم الجنة باق وخالد . وما دام هناك ماء ، فهناك خضرة ومنظر جميل ولابُدّ أَنْ يكون هناك ثمر … وفي قوله تعالى : { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً … } [ البقرة : 25 ] . حديث عن ثمر الجنة … وثمر الجنة يختلف عن ثمر الدنيا … إنك في الدنيا لابد أن تذهب إلى الثمرة وتأتي بها أو يأتيك غيرك بها … ولكن في الجنة الثمر هو الذي يأتي إليك ، بمجرد أن تشتهيه تجده في يدك … وتعتقد أن هناك تشابهاً بين ثمر الدنيا وثمر الجنة … ولكن الثمر في الجنة ليس كثمر الدنيا ، لا في طعمه ولا في رائحته … وإنما يرى أهل الجنة ثمرها ، ويتحدثون ويقولون ربما تكون هذه الثمرة هي ثمرة المانجو أو التين الذي أكلناه في الدنيا ، ولكنها في الحقيقة تختلف تماماً … قد يكون الشكل متشابهاً ولكن الطعم وكل شيء مختلف . في الدنيا كل طعام له فضلات يخرجها الإنسان … ولكن في الآخرة لا يوجد لطعام فضلات ، بل إن الإنسان يأكل كما يشاء دون أن يحتاج إلى إخراج فضلات ، وذلك لاختلاف ثمار الدنيا عن الآخرة في التكوين . إذن ، ففي الجنة الأنهار مختلفة والثمار مختلفة ، والجنة يكون الرزق فيها من الله سبحانه وتعالى الذي يقول " للشيء كن فيكون " . . ولا أحد يقوم بعمل . ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 25 ] . الزوجة هي متعة الإنسان في الدنيا إن كانت صالحة ، والمنغصة عليه إن كانت غير صالحة ، وهناك منغصات تستطيع أن تضعها المرأة في حياة زوجها تجعله شقياً في حياته … كأن تكون سليطة اللسان أو دائمة الشجار … أو لا تعطي اهتماماً لزوجها أو تحاول إثارته بأن تجعله يشك فيها … أما في الآخرة كل هذه المنغصات تزول بأمر الله . فالزوجة في الآخرة مُطَهَّرَةٌ من كل ما يكرهه الزوج فيها ، وما لم يحبه في الدنيا يختفي . فالمؤمنون في الآخرة مُطَهَّرُون من كل نقائص الدنيا ومتاعبها وأولها الغل والحقد … واقرأ قوله جل جلاله : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } [ الحجر : 47 ] . فمقاييس الدنيا ستختفي ، وكل شيء تكرهه في الدنيا لن تجده في الآخرة ، فإذا كان أي شيء قد نَغَّصَ حياتك في الدنيا فإنه سيختفي في الآخرة ، والحق تبارك وتعالى ضرب المثل بالزوجات ، لأن الزوجة هي متعة زوجها في الدنيا ، وهي التي تستطيع أن تحيل حياته إلى نعيم أو جحيم . وقوله تعالى : { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 25 ] … أي لا موت في الآخرة ، ولن يكون في الآخرة وجود للموت أبداً ، وإنما فيها الخلود الدائم إما في الجنة وإما في النار .