Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 20, Ayat: 50-50)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

معنى { أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ … } [ طه : 50 ] أي : كل ما في الوجود ، خلقه الله لمهمة ، فجاء خَلْقه مناسباً للمهمة التي خُلِق لها { ثُمَّ هَدَىٰ } [ طه : 50 ] أي : دلّ كل شيء على القيام بمهمته ويسّره لها . والحق سبحانه أعطى كل شيء خَلْقَهُ الخَلْق يُطلَق ، ويُراد به المخلوق ، فالمخلوق شيء لا بُدَّ له من مادة ، لا بُدَّ أن يكون له صورة وشكل ، له لون ورائحة ، له عناصر ليؤدي مهمته . فإذا أراد الله سبحانه خَلْق شيء يقْدِر له كل هذه الأشياء فأمدَّ العين كي تبصر ، والأنف كي يشم ، واللسان كي يتذوق ، ثم هدى كل شيء إلى الأمر المراد به لتمام مهمته ، بدون أي تدخّل فيه من أحد . وإذا كان الإنسان ، وهو المقدور للقادر الأعلى يستطيع أن يصنع مثلاً القنبلة الزمنية ، ويضبطها على وقت ، فتؤدي مهمتها بعد ذلك تلقائياً دون اتصال الصانع بها . فالحق سبحانه خلق كل شيء وأقدره على أنْ يُؤدِّي مهمته على الوجه الأكمل تأدية تلقائية غريزية ، فالحيوانات التي نتهمها بالغباء ، ونقول عنها : " بهائم " هي في الحقيقة ليست كذلك ، وقد أعطانا الحق - سبحانه وتعالى - صورة لها في مسألة الغراب الذي بعثه الله ليُعلِّم ولد آدم كيف يواري سوءة أخيه كما قال سبحانه : { فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ } [ المائدة : 31 ] . فكيف صنع الغراب هذا الصنيع ؟ صنعه بالغريزة التي جعلها الله فيه ، ولو تأملتَ الحمار الذي يضربون به المثل في الغباء حين تريده أنْ يتخطى قناة مثلاً ، تراه ينظر إليها ويُقدِّر مسافتها ، فإن استطاع أنْ يتخطاها قفز دون تردد ، وإنْ كانت فوق إمكانياته تراجع ، ولم يُقْدِم مهما ضربته أو أجبرته على تخطيها ، هذه هي الغريزة الفِطْرية . لذلك تجد المخلوقات غير المختارة لا تخطىء لأنها محكومة بالغريزة ، وليس لها عقل يدعو إلى هوىً ، وليس لها اختيار بين البدائل مثل العقل الإلكتروني الذي يعطيك ما أودعته فيه لا يزيد عليه ولا ينقص ، أما الإنسان فيمكن أنْ يُغيّر الحقيقة ، ويُخفِي ما تريده منه ، لأن له عقلاً يفاضل : قُلْ هذه ، ولا تقُلْ هذه ، وهذا ما ميّز الله به الإنسان عن غيره من المخلوقات . كذلك ، ترى الحيوان إذا شبع يمتنع عن الطعام ولا يمكن أن تؤكله عود برسيم واحد مهما حاولتَ ، إنما الإنسان صاحب العقل والهوى يقول لك : أرها الألوان تريك الأركان ، فلا مانع - بعد أن أكل حتى التخمة - من تذوُّق أصناف شتّى من الحلوى والفاكهة وخلافه . وفي هذه الآية يقول الحق سبحانه وتعالى أنه : { أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [ طه : 50 ] . خذ مثلاً الأذن ، وكيف هي محكمة التركيب مناسبة لتلقي الأصوات ، ففي الأذن من الخارج تجاعيد وتعاريج تتلقى الأصوات العالية ، فتُخفّف من حِدّتها حتى تصل إلى الطبلة الرقيقة هادئة ، وإلاَّ خرقتها الأصوات وأصَمّتها ، وكذلك جعلها الله لِصدِّ الرياح حتى إذا هبت لم تجد الأذن هكذا عارية فتؤذيها . وكذلك العَيْن ، كم بها من آيات لله ، فقد خلقها الله بقدر ، من هذه الآيات أن حرارتها إنْ زادت عن 12 درجة تفسد ، وأرنبة الأنف إنْ زادت عن 9 درجات لا تؤدي مهمتها ، مع أن في الجسم عضواً حرارته 40 درجة هو الكبد ، والحرارة الكلية للإنسان 37 درجة ، تكون ثابتة في المناطق الباردة حيث الجليد كما هي في المناطق الحارة ، لا ترتفع ولا تنخفض إلا لعِلَّة أو آفة في الجسم . إذن : كل شيء في الوجود خلقه الله بقدر وحكمة وكيفية لأداء مهمته ، كما قال في آية أخرى : { ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } [ الأعلى : 2 - 3 ] . اللسان مثلاً جعل الله به حَلَمات متعددة ، كل واحدة منها تتذوّق طَعْماً معيناً ، فواحدة للحلو ، وواحدة للمُرِّ ، وواحدة للحريف ، وهكذا ، وجميعها في هذه المساحة الضيقة متجاورة ومتلاصقة بقَدْر دقيق ومُعْجز . الأنف وما فيه من مادة مُخاطية عالقة لا تسيل منك ، وشعيرات دقيقة ، ذلك لكي يحدث لهواء الشهيق عملية تصفية وتكييف قبل أن يصل إلى الرئتين لذلك لا ينبغي أنْ نقصَّ الشعيرات التي بداخل الأنف لأن لها مهمة . عضلة القلب وما تحتويه من أُذَيْن وبُطَيْن ، ومداخل للدم ، ومخارج محكمة دقيقة تعمل ميكانيكياً ، ولا تتوقف ولا تتعطل لمدة 140 أو 120 سنة ، تعمل تلقائياً حتى وأنت نائم ، فأيّ آلة يمكن أنْ تُؤدِّي هذه المهمة ؟ والحق سبحانه وتعالى عندما أرسل موسى وهارون بآية دالة على صدقهما إلى فرعون كانت مهمتهما الأساسية أَخْذ بني إسرائيل ، وإنقاذهم من طغيان فرعون ، وجاءت المسألة الإيمانية تبعية ، أما أصل مهمة موسى فكان : { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ … } [ طه : 47 ] . والحق سبحانه حين يعرض قضية الإيمان يعرضها مبدوءة بالدليل دليل البدء الذي جاء في قوله تعالى : { قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [ طه : 50 ] لأن ، فرعون الذي ادعى الألوهية لا بُدَّ أن يكون له مألوهون ، وهم خَلْق مثله ، وهو يعتزّ بملكه وماله من أرض مصر ونيلها وخيراتها حتى قال : { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ … } [ الزخرف : 51 ] . فأراد الحق سبحانه وتعالى أنْ يرد عليه : ألَكَ شيء في خَلْق هؤلاء المألوهين لك ؟ وما أشبهَ موقف فرعون أمام هذه الحجة بموقف النمروذ أمام نبي الله إبراهيم عليه السلام عندما قال له : { رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ … } [ البقرة : 258 ] . فلم يجد النمروذ إلا الجدل والسفسطة ، فلجأ إلى حيلة المفلسين ، وجاء برجلين فقال : أنا أحكم على هذا بالموت وأعفو عن هذا لذلك لما أحسَّ إبراهيم - عليه السلام - منه المراوغة والجدال نقله إلى مسألة لا يستطيع منها فكاكاً . { قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [ البقرة : 258 ] . إذن : فالردُّ إلى قضية الخلق الأول دليل لا يمكن لأحد ردُّه ، حتى فرعون ذاته لم يدَّعِ أنه خلق شيئاً ، إنما تجبّر وتكبّر وادّعى الألوهية فقط على مألوه لم يخلقه ، ولم يخلق نفسه ، ولم يخلق الملْك الذي يعتز به . ولما كان دليل الخلق الابتدائي هو الدليل المقنع ، لم يكن لفرعون رَدٌّ عليه لذلك لما سمع هذه المسألةَ { قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [ طه : 50 ] لم يستطع أنْ ينقضَ هذا الدليل ، فأراد أنْ يُخرِج الحوار من دليل الجد إلى مسألة أخرى يهرب إليها ، مسألة فرعية لا قيمة لها : { قَالَ فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ … } .