Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 20, Ayat: 66-66)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لأنهم إنْ ألقوا سِحْرهم كانت للعصا مهمة حين يلقيها موسى ، فأراد أن يكون للعصا حركة بعد أن تنقلب إلى ثعبان أو حية أو جان ، وإلا لو ألقى هو أولاً ، فماذا سيكون عملها ؟ وقد ألهم الله تعالى سحرة فرعون هذا الأدب في معركتهم مع موسى ، فخيَّروه بين أنْ يلقي هو ، أو يلقوا هُمْ ، والله - تبارك وتعالى - يحُول بين المرء وقلبه ، فألهمهم ذلك مع أنهم خصومه ، وأنطقهم بما يؤيد صاحب المعجزة الخالدة ، فقالوا : { إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىٰ } [ طه : 65 ] . وقد اختار موسى - عليه السلام - أنْ يُلقي أخيراً لأن التجربة التي مَرَّ بها في طوى مع ربه - عز وجل - لما قال له ربه : { قَالَ أَلْقِهَا يٰمُوسَىٰ } [ طه : 19 ] . فلما ألقى موسى عصاه انقلبتْ إلى حيَّة تسعى ورأى هو حركتها ، لكن لم يكُنْ بهذه التجربة شيء تلقفه العصا ، فإذا ألقى موسى أولاً وتحوَّلَتْ العصا حية أو ثعباناً ، فما الفرق بينها وبين حبال السحرة التي تحولتْ أمامهم إلى حيَّات وثعابين ؟ إذن : لا بُدَّ من شيء يُميِّز عصا موسى كمعجزة عن سِحْر السحرة وشعوذتهم لذلك اختار موسى أنْ يُلقي هو آخراً بإلهام من الله حتى تلقف عصاه ما يأفكون ، فما يُلقَف لا بُدَّ أن يسبق ما يَلْقُف . فمن حيث الحركة أمام الناظرين لا فَرْقَ بين عصا موسى وحبال السحرة وعِصِيهم ، فكلها تتحرك ، إنما تميزت عصا موسى بأنها تلقف ما يصنعون من السحر ، وتتتبع حبالهم وعِصيَّهم ، وتقفز هنا وهناك ، فلها - إذن - عَيْن تبصر ، ثم تلقف سحرهم في جوفها ، ومع ذلك تظل كما هي لا تنتفخ بطنها مثلاً ، وهذا هو موضع المعجزة في عصا موسى عليه السلام . وقوله تعالى : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ } [ طه : 66 ] إذن : فحركة العِصِيّ والحبال ليستْ حركة حقيقية ، إنما هي تخيُّل { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ … } [ طه : 66 ] فيراها تسعى ، وهي ليست كذلك . وقد قال تعالى عن هؤلاء السحرة : { سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ … } [ الأعراف : 116 ] فجاءوا بأعمال تخيُّلية خادعة بأيِّ وسيلة كانت ، فالبعض يقول مثلاً : إنهم وضعوا بها الزئبق ، فلما حَمِيَتْ عليه الشمس تمدّد ، فصارتْ الأشياء تتلوّى وتتحرك ، فأياً كانت وسائلهم فهي مجرد تخيُّلات ، أمَّا الساحر نفسه فيراها حِبَالاً على حقيقتها ، وهذا هو الفرق بين سِحْر السحرة ، ومعجزة عصا موسى . والسحر يختلف عن الحِيَل التي تعتمد على خِفَّة الحركة والألاعيب والخُدَع ، فالسحر أقرب ما يكون إلى الحقيقة في نظر الرائي ، كما قال تعالى : { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ … } [ البقرة : 102 ] . إذن : هو فَنٌّ يُتعلم ، يعطي التخييل بواسطة تسخير الجنِّ ، فهم الذين يقومون بكل هذه الحركات ، فهي - إذن - ليستْ حيلاً ولا خفة حركة ، إنما هي عملية لها أصول وقواعد تُدرَّس وتُتعَلَّم . والخالق - عز وجل - حينما يعرض علينا قضية السحر ، وأنه عبارة عن تَسخير الشياطين لخدمة الساحر ، ويجعل لكل منهما القدرة على مضرّة الآخرين : الساحر بالسحر ، والشياطين بما لديهم من قوة التشكّل في الأشكال المختلفة والنفاذ من الحواجز لأن الجن خُلِقُوا من النار ، والنار لها شفافية تنفذ خلال الجدار مثلاً . أما الإنسان فَخُلِق من الطين ، والطين له كثافة ، وضربنا مثلاً لنقرب هذه المسألة ، قلنا : هَبْ أنك تجلس خلف جدار ، ووراء هذا الجدار تفاحة مثلاً وهي من الطينية المتجمدة ، أيصل إليك من التفاحة شيء ؟ إنما لو خلف الجدار نار فسوف تشعر من خلال الجدار بحرارتها . هذه - إذن - خصوصيات جعلها الخالق عز وجل للشياطين فضلاً عن أنهم يرونكُم من حيث لا ترونهم . لكن ، كان من لُطْف القدير بنا أن جعل لنا ما يحمينا من الشياطين ، فجعل الحق - تبارك وتعالى - حين يتشكَّلون في الأشكال المختلفة تحكمهم هذه الأشكال ، بمعنى لو أن الشيطان تشكّل لك في صورة إنسان فقد حكمتْه هذه الصورة ، فلو أطلقتَ عليه الرصاص في هذه اللحظة لقتلتَه فعلاً . لذلك فالشيطان يخاف منك أكثر مما تخاف منه ، ولا يظهرون لنا إلا ومضة ولمحة سريعة خَوْفاً أن يكون الرائي له على عِلْم بهذه المسألة فيمسك به وساعتها لن يفلت منك . وقد أمسك النبي صلى الله عليه وسلم شيطاناً وقال : " لقد هممت أن أربطه بسارية المسجد ، يلعب به غلمان المدينة ، إلا أنني ذكرت دعوة أخي سليمان { وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ … } " . إذن : الحق سبحانه أعطاهم خصوصية التشكّل كما يحبون ، إنما قيدهم بما يشكّلون به ، كأنه يقول له : إذا تركتَ طبيعتك وتشكَّلْت بصورة أخرى فارْضَ بأنْ تحكمك هذه الصورة ، وأن يتحكم فيك الأضعف منك ، وإلا لَفزَّعوا الناس وأرهبوهم ، ولم نسلم من شَرِّهم . وكذلك الحال مع الساحر نفسه ، فلديه بالسحر والطلاسم أن يُسخِّر الجن يفعلون له ما يريد ، وهذه خصوصية تفوق بها قدرتُه قدرةَ الآخرين ، ولديه بالسحر فُرْصة لا تتوفر لغيره من عامة الناس ، فليس بينه وبينهم تكافؤ في الفُرص . والله عز وجل يريد لخَلْقه أنْ تتكافأ فُرَصهم في حركة الحياة فيقول الساحر : إياك أن تفهم أن ما يسَّرته لك من تسخير الأقوى منك ليقدر على ما لا تقدر عليه يفيدك بشيء . أو أنك أخذتَ بالسحر فرصةً على غيرك ، بل العكس هو الصحيح فلن تجنيَ من سِحْرك إلا الضرر والشقاء ، فالسحر فتنة للإنسان ، كما أنه فتنة للجن . لذلك يقول تعالى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ … } [ البقرة : 102 ] . والفتنة هنا معناها أن نختبر استعماله لمدى مَا أعدَّه الله له ، أيستعمله في الخير أم في الشر ؟ فإنْ قُلْتَ : أتَعلَّم السحر لأستعمله في الخير . نقول : هذا كلامك ساعة التحمُّل ، ولا تضمن نفسك ساعة الأداء . كما قلنا سابقاً في تحمُّل الأمانة حين تقبلها ساعة التحمل ، وأنت واثق من قدرتك على أدائها في وقتها ، ومطمئنٌ إلى سلامة نيتك في تحمُّلها ، أما وقت الأداء فربما يطرأ عليك ما يُغيّر نيتك . وكما جاء في قول الحق تبارك وتعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] . فاخترْنَ التسخير على الاختيار وحَمْل الأمانة لأنهن لا يضمَنَّ القيام بها . وقد أعذر الله تعالى إلى السحرة في قوله : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ … } [ البقرة : 102 ] . كأن الساحر مآله إلى الكفر لأنه ابن أهواء وأغيار ، لا يستطيع أن يتحكّم في نفسه فيُسخِّر قوة السحر في الخير ، كما أن الله تعالى إذا أراد أن يُسخِّر القوى للخير : أيُسخِّر الطائع ؟ أم يُسخِّر العاصي ؟ سيُسخِّر الطائع ، والجن الطائع لا يرضى أبداً بهذه المسألة . إذن : لن يستطيع الساحر إلا تسخير الجن العاصي ، كما قال تعالى : { وَإِنَّ ٱلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ … } [ الأنعام : 121 ] . لذلك تلاحظ أن كل الذين يشتغلون بهذه العملية على سَمْتهم الغضب ، وعلى سحنتهم آثار الذنوب وشُؤْمها ، ينفر منهم مَنْ رآهم ، يعيشون في أضيق صور العيش ، فترى الساحر يأخذ من هذا ، ويأخذ من هذا ، ويبتز الناس ويخدعهم ، ومع ذلك تراه شحاذاً يعيش في ضيق ، ويموت كافراً مُبْعَداً من رحمة الله حتى أولاده من بعده لا يَسْلمَون من شُؤْمه ، وصدق الله العظيم حين قال : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } [ الجن : 6 ] . كما أن في حياة السحرة لفتة ، يجب أن نلتفت إليها ، وهي أن السحرة الذين يصنعون السحر للناس ويخدعونهم : من أين يرتزقون ؟ من عامة الناس الذين لا يفهمون في السحر شيئاً ، ولو أنه أفلح بالسحر لأغنى نفسه عن أنْ تمتد يده إلى هذا ، فيأخذ منه عدة جنيهات ، وإلى هذا يطلب منه أشياء غريبة يُوهمه أن مسألته لن تُحّل إلا بها . ولماذا لم يستخدم سحره في سرقة خزينة مثلاً ويريح نفسه من هذا العناء ، وإنْ قال : كيف وهي أموال الناس والسطو عليها سرقة ، فليذهب إلى الرِّكاز وكنوز الأرض فليست مملوكة لأحد . نعود إلى سحرة فرعون أياً كان سحرهم أمِنْ نوع الألاعيب وخِفّة الحركة وخداع الناظرين ؟ أم من نوع السحر الذي علّمته الشياطين من زمن سليمان - عليه السلام - فهو سحر لن يقف أمام معجزة باهرة جاءت على يد موسى لإثبات صدقه . ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً … } .