Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 21, Ayat: 51-51)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

نلاحظ أن الحق سبحانه بدأ تسليته لرسوله صلى الله عليه وسلم بذِكْر طرف من قصة موسى ، ثم ثنَّى بقصة إبراهيم ، مع أن إبراهيم عليه السلام سابقٌ لموسى ، فلماذا ؟ قالوا : لأن موسى له صِلَة مباشرة باليهود وقريب منهم ، وكان اليهود معه أهلَ جَدَل وعناد . ومعنى { رُشْدَهُ … } [ الأنبياء : 51 ] الرُّشْد : اهتداء العقل إلى الأكمل في الصلاح والأعلى في الخير ، بحيث لا يأتي بعد الصلاح فسادٌ ، ولا بعد الخير شر ، ولا يُسلمك بعد العُلو إلى الهبوط ، هذا هو الرُّشْد . أما أنْ يجرَّك الصلاح الظاهر إلى فساد ، أو يُسلِمَك الخير إلى شر ، فليس في ذلك رُشْدٌ . والآن نسمعهم يتحدثون عن الفنون الجميلة ، ويستميلون الناس بشعارات برّاقة أعجبتْ الناس حتى وصلت بهم الجرأة إلى أنْ قالوا عن الرقص : فنٌّ راقٍ وفنّ جميل … سبحان الله ، الرقص كما قلتم لو أنه فعلاً راقٍ وجميل ، وظل كذلك إلى آخر الطريق ، ولم ينحدر إلى شيء قبيح وهابط ، ماذا يحدث حين يجلس الرجل أمام راقصة تُبدِي من مفاتنها وحركاتها ما لا تُحسنه زوجته في البيت ؟ كم بيوت خَرِبَتْ وأُسَر تهدمت بسبب راقصة ، فأيُّ رقيٍّ ؟ وأيُّ جمال في هذا الفن ؟ ! لذلك فالإمام علي - كرَّم الله وجهه - لخَّص هذه المسألة فقال : " لا شَرَّ في شَرٍّ بعده الجنة ، ولا خيرَ في خير بعده النار " . إذن : على الإنسان أن ينتبه إلى الرُّشْد الذي هو اهتداء العقل إلى الصالح الأعلى أو إلى الكمال الأعلى أو الخير الأعلى . وهذا الرُّشْد له اتجاهان : رُشْد البِنْية ، ورُشْد المعنى . رُشْد البِنْية وهو اكتمال تكوين الإنسان بحيث يُؤدِّي كل جهاز فيه وظيفته ، وهذا لا يكون إلا بعد سِنِّ البلوغ ، وقد جعل الخالق سبحانه استواء الأعضاء التناسلية دليلاً على اكتمال هذا الرُّشْد حين يصير المرء قادراً على إنجاب مثله . وهذا واضح في الثمار حيث لا يحلو مذاقها إلا بعد نضجها واكتمال بذرتها لتكون صالحة للإنبات إذا زرعتها ، وهذا من حكمة الخالق - سبحانه وتعالى - فنأكل الثمرة ونستبقي نوعها ببذرتها الصالحة ، أمّا لو استوت الثمرة للأكل قبل نُضْج بذرتها لأكلنا الثمار الموجودة ولم نستبق نوعها فتنقرض . لذلك ، من حكمة الله أيضاً أن الثمرة إذا استوتْ ونضجَتْ ولم تجد مَنْ يقطفها تسقط من تلقاء نفسها ، وتُجدِّد دورتها في الحياة . ولأمر ما جعل الله التكليف بعد البلوغ ، فلو كلّفك قبل البلوغ لوجدتَ في التكاليف نَهْياً عن بعض الأمور التي لا تعرفها ولا تدركها ، وقد تعترض على ربك : كيف أفعل يا ربّ وقد جاءتني هذه الغريزة ففعلتْ بي كذا وكذا . ولكل آلة وجهاز في جسم الإنسان رُشْد يناسبه ، ونمو يناسب تكوينه ، فمثلاً عَيْن الطفل وفمه وأصابع يده كلها تنمو نمواً مناسباً لتكوين الطفل . أما الأسنان ففيها حكمة بالغة من الخالق عز وجل ، فقد جعل للطفل في المرحلة التي لا يستطيع فيها تنظيفَ أسنانه بنفسه ، ولا حتى يستطيع غيره تنظيفها جعل له طقماً احتياطياً من الأسنان ، يصاحبه في صِغَره تُسمَّى الأسنان اللبنية ، حتى إذا ما شَبَّ وكَبر واستطاع أنْ يُنَظّف أسنانه بنفسه أبدله الله طَقْماً آخر يصاحبه طوال عمره . وهناك رُشْد أعلى ، رُشْد فكري معنوي ، رُشْد يستوي فيه العقل والتفكير ويكتمل الذِّهنْ الذي يختار ويُفَاضل بين البدائل ، فقد يكتمل للمرء رُشْده البُنياني الجسماني دون أنْ يكتملَ عقله وفِكْره ، وفي هذه الحالة لا نُمكِّنه من التصرف حتى نختبره ، لنعلم مدى إحسانه للتصرف فيما يملك ، فإنْ نجح في الاختبار فَلْنُعْطِه المال الذي له ، يتصرف فيه كما جاء في قول الحق سبحانه وتعالى : { وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ … } [ النساء : 6 ] أي : لا تنتظر حتى يكبر ، ثم تعطيه ماله ، يفعل فيه ما يشاء دون خِبْرة ودون تجربة ، إنما تختبره وتَشْركه في خِضَمِّ الحياة ومعتركها ، فيشبّ مُتمرِّساً قادراً على التصرف السليم . وفي آية أخرى قال تعالى : { وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ … } [ النساء : 5 ] لأنهم إن بلغوا الرُّشْد البدنيّ فلم يبلغوا الرُّشْد العقلي ، وإياك أن تقول : هو ماله يتصرف فيه كما يشاء ، فليس للسفيه مال بدليل : { وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ … } [ النساء : 5 ] ولم يقُلْ : أموالهم ، فهو مالُكَ تحافظ عليه كأنه لك ، وأنت مسئول عنه أمام الله ، ولا يكون مال السَّفيه له إلا إذا أحسنَ التصرف فيه . ومن الرُّشْد ما سماه القرآن الأشُدّ : { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ … } [ الأحقاف : 15 ] . والأشُدُّ هو : التسامي في الرُّشْد وقال هنا أربعين سنة مع أننا ذكرنا أن الإنسان يبلغ رُشْد البِنْية ورُشْد العقل بعد سِنَِّ البلوغ في الخامسة عشرة تقريباً ، إذن : مَنْ لم يرشُدْ حتى الأربعين فلا أملَ فيه ، والنار أَوْلَى به لأنه حين يكفر أو ينحرف عن الطريق في عنفوان شبابه وقوته نقول : شراسة الشباب والشهوة والمراهقة ، إلى آخر هذه الأعذار فإذا ما بلغ الأربعين فما عذره ؟ وإذا لم يتلقَّ مبادئ الرُّشْد في صِغَره وفي شبابه ، فلا شَكَّ أنه سيجد في أحداث الحياة طوال أربعين سنة واقعاً يُرشده قَهْراً عنه ، حيث يرى أعماله وعواقبها وأخطاءه وسقطاته ، وينبغي أنْ يأخذ منها درساً عملياً نظرياً في الرُّشْد . ومن ذلك ما نسمعه من مصطلحات معاصرة يقولون " الرشد السياسي " ويقولون " ترشيد الاستهلاك " ، ما معنى هذه المصطلحات ؟ معناها أن أحداث الحياة وتجاربها وعدم الرُّشْد في مسيرتهم عضَّت الناس ، وألجأتْهم إلى التفكير في ترشيد يُذهب هذا الفساد . إذن : فالرُّشْد للذات والترشيد للغير كما نفعل في ترشيد استهلاك القمح مثلاً وكنا نعلف به المواشي ، حتى أصبحنا لا نجده لذلك بدأنا في ترشيد استهلاك رغيف الخبز وصِرْنا نقسمه أربعة أقسام ، ونأكل بحساب ، ولا نهدر شيئاً ، وما يتبقى يتبقى نظيفاً نأكله في وَجْبة أخرى . وقد لا يكون عند الخباز نفسه ترشيد ، فيُخرج الرغيف قبل استوائه فتجده عجيناً ، كله لبابة ، فتأتي ربة البيت الواعية فتفتح الرغيف قبل وضعه على المائدة ، وتُخرِج منه هذه البابة ، وتجمعها ثم تُحمِّصها في الفرن ، وتصنع منها طعاماً آخر . وما يقال في " ترشيد الخبز " يقال في " ترشيد الماء " ، وقد أمرنا رسول الله بترشيد استهلاك الماء حتى في الوضوء الذي هو قربى إلى الله . هذا الرُّشْد الذي وصفنا رُشْد كل عاقل غير الرسل ، وهو أنه يهتدي إلى قضايا حياته ، ويتصرّف فيها تصرفاً سليماً ، إنما مقتضى نتيجة هذا الصلاح في الدنيا ، أما الرسل فلهم رُشْد آخر ، رُشْد أعلى للدنيا وللآخرة ، وهذه هبة من الله للرسل . قال تعالى في حَقِّ إبراهيم عليه السلام : { وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ … } [ الأنبياء : 51 ] وكأن رُشْد إبراهيم لا يخضع لهذه القواعد ، ولا يرتبط ببلوغ ، ولا نبوة ، بل هو رُشْد سابق لأوانه منذ أنْ كان صغيراً يتأمل في النجوم ويبحث عن ربه : { فَلَمَّآ رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالِّينَ * فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي هَـٰذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 77 - 78 ] . فكان - عليه السلام - مُؤهِّلاً للرسالة منذ صِغَره ، ولما أُرسل ونُبِّيء ظهرتْ مواهب رُشْده حين أُلقِي في النار ، وجاءه جبريل - عليه السلام - يعرض عليه المساعدة ، فيقول إبراهيم : أما إليك فلا . وهذه أول بشائر الرشد الفكري والعقدي عند إبراهيم . وفي حَقِّه قال تعالى : { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ … } [ البقرة : 124 ] أي : اختبره في أشياء فأتمهُنَّ وأتى بِهنّ على أكمل وجه ، منها : أنه طلب منه أنْ يرفعَ قواعد البيت ، وكان يكفي أن يرفع إبراهيم قواعد البيت إلى ما تطول يده ، إنما إبراهيم عليه السلام كان حريصاً أنْ يتم الأمر على أكمل وجه ، فيفكر ويحتال في أنْ يأتيَ بحجر ويقف عليه ليرفع البناء بمقدار الحجر ، ويساعده ولده الصغير إسماعيل فيناوله الحجارة ، لكن الولد الصغير تتزحلق قدماه حينما يرفع الحجارة لأبيه ، فيحتال على هذا الأمر فيحفر في الحجر على قَدْر قدميه حتى يثبت ، وهاتان القدمان نشاهدهما حتى الآن في حِجْر إسماعيل . إذن : كان عنده عِشْق لللتكاليف وحِرْص على إتمامها . وقوله تعالى : { وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } [ الأنبياء : 51 ] هذا واضح في قوله تعالى : { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ … } [ الأنعام : 124 ] .