Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 22, Ayat: 74-74)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يعني : هؤلاء الكفار الذين عبدوا من دون الله آلهة لا تستطيع أن تخلق ذباباً ، ولا تستطيع حتى أنْ تردَّ من الذباب ما أخذه ، هؤلاء ما عرفوا لله قَدْره ، ولو عرفوا قَدْر الله ما عبدوا غيره . والقَدْر : يعني مقدار الشيء ، وقلنا : إن مقادير الأشياء تختلف حسب ما تريده من معرفة المقادير ، فالطول مثلاً له مقياس يُقَاس به مقدار الطول ، لكن هذا المقياس يختلف باختلاف المقيس ، فإنْ أردتَ أنْ تقيسَ المسافة بين القاهرة والأسكندرية مثلاً لا تستخدم المللي أو السنتيمتر ولا حتى المتر ، إنما تستخدم الكيلومتر ، فإنْ أردت شراء قطعة من القماش تقول متر ، أما إنْ أردتَ صورة شخصية تقول سنتيمتر . إذن : لكل شيء مقدار يُقدَّر به ، ومعيار يُقاس به ، فإنْ أردتَ المسافة تقيس الطول ، فإنْ أردت المساحة تقيس الطول في العرض ، فإنْ أردتَ الحجم تقيس الطول في العرض في الارتفاع ، الطول بالمتر والمساحة بالمتر المربع ، والحجم بالمتر المكعب . كذلك في الوزن تُقدِّره بالكيلو أو الرطل أو الجرام … إلخ . وقدر تأتي بمعنى : ضيَّق ، كما جاء في قوله تعالى : { وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ … } [ الفجر : 16 ] . ويقول الحق سبحانه وتعالى : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ ٱللَّهُ … } [ الطلاق : 7 ] . والمقدار كما يكون في الماديات يكون أيضاً في المعنويات ، فمثلاً تعبر عن الزيادة المادية تقول : فلان كبر يعني شَبَّ وزاد ، أما في المعنويات فيقول الحق سبحانه : كَبُر { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ … } [ الكهف : 5 ] يعني : عَظُمتْ . والحق - تبارك وتعالى - ليس مادة لأنه سبحانه فوق المادة ، فمعنى المقدار في حقه تعالى عظمته في صفات الكمال فيه { مَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ … } [ الحج : 74 ] ما عظّموه حَقَّ التعظيم الذي ينبغي له ، وما عرفوا قَدْره ، ولو عرفوا ما عبدوا غيره ، ولا عبدوا أحداً معه من هذه الآلهة التي لا تخلق ذباباً ، ولا حتى تسترد ما أخذه منهم الذباب ، فكيف يُسَوُّون هؤلاء بالله ويقارنونهم به عز وجل ؟ إنهم لو عرفوا لله تعالى قَدْره لاستحيوا من ذلك كله . ثم تُذيَّل الآية بقوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحج : 74 ] فما مناسبة هاتين الصفتين للسياق الذي نحن بصدده ؟ قالوا : لأن الحق - سبحانه وتعالى - تكلَّم في المثَل السابق عَمَّنْ انصرفوا عن عبادته سبحانه إلى عبادة الأصنام وقال : { ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ } [ الحج : 73 ] فقال في مقابل هذا الضعف إن الله لقويُّ ، قوة عن العابد لأنه ليس في حاجة إلى عبادته ، وقوة عن المعبود لأنه لو شاء حَطَّمه ، وما دُمْتم انصرفتم عن الله وعبدتم غيره ، فهذا فيه مُضارَّة ، وكأن هناك معركة ، فإنْ كان كذلك فالله عزيز لا يغالب . والآية : { مَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ . . } [ الحج : 74 ] وردتْ في عدة مواضع في كتاب الله ، منها : { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ … } [ الأنعام : 91 ] فلم يعرفوا لله تعالى قَدْره لأنهم اتهموه ، وله سبحانه كمال العدل ، فكيف يُكلف عباده بعبادته ، ولا يبلغهم برسول ؟ وهو سبحانه القائل : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] . فحين يقولون : { مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ … } [ الأنعام : 91 ] كأنهم يصِفُون الحق سبحانه بأنه يُعذِّب الناس دون أنْ يُبلِّغهم بشيء . ويردّ عليهم في هذه المسألة : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ … } [ الأنعام : 91 ] . وفي موضع آخر : { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ … } [ الزمر : 67 ] . ونقول : قَدّرَه حَقَّ قدره ، وقَدَره قَدْره ، كأن الأمور تختلف في تقدير الأشياء ، فمثلاً تنظر إلى حجرة فتقول : هذه تقريباً 5 × 4 هذا تقدير إجمالي تقريبي ، إنما إنْ أخذت المقياس وقدَّرْتَ تقديراً حقيقياً ، فقد تزيد أو تنقص ، فالأول تقول : قدَّرْت الحجرة قَدْرها . والآخر تقول : قدرت الحجرة حَقَّ قَدرها . وعليه فإنك إنْ أردت أنْ تُقدِّر الله تعالى حَقَّ قَدْره فإنك تقدِّره على قَدْر استيعاب العقل البشري ، إنما قَدْره تعالى حقيقة فلا تحيط به لأن كمالاته تعالى لا تتناهى ولا تُدرَك إدراكاً تاماً . ومن ذلك ما سبق أن ذكرناه عن علم اليقين وعين اليقين وحقِّ اليقين . ولما نزل قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ … } [ آل عمران : 102 ] قال بعض الصحابة : ومَنْ يقدر على ذلك إنها مسألة صعبة أن نتقي الله التقوى الكاملة التي يستحقها عز وجل ، فأنزل الله تعالى : { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ … } [ التغابن : 16 ] ونزلت : { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا … } [ البقرة : 286 ] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أثنى على الله تعالى يقول : " سبحانك ، لا نحصي ثناءً عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك " . لماذا ؟ لأنه لا يملك أحد مهما أُوتِي من بلاغة الأسلوب أنْ يُثني على الله الثناء المناسب الذي يليق به سبحانه ، ومن رحمة الله تعالى بعباده أن تحمل عنهم هذه المسألة فأثنى الحق سبحانه على نفسه ، وعلَّمنا كيف نثني عليه سبحانه ، فإذا ما تحدث البليغ وأثنى على الله بفنون القول والثناء ، فإن العييَّ الذي لا يجيد الكلام يطمئن حيث يُثِني على ربه بما علمه من الثناء ، وما وضعه من صيغ يقولها الفيلسوف ، ويقولها راعي الشاة . ولولا أن الله تعالى علَّمنا صيغة الحمد في سورة الفاتحة فقال : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] ما تعلمنا هذه الصيغة ، فتعليم الله لعباده صيغة الحمد في ذاتها نعمة تستحق الحمد ، والحمد يستحق الحمد ، وهكذا في سلسلة لا تنتهي ، ليظل الحق - تبارك وتعالى - محموداً دائماً ، ويظل العبد حامداً دائماً . وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن مسألة الألوهية وما ينبغي لها من صفات الكمال المطلق ، وحذر أنْ نُدخِل عليها ما ليس منها وما لا يستحقها ، وهذه قمة العقائد ، وبعد أن نؤمن بالإلهيات بهذا الصفاء ونُخلِّص إيماننا من كل ما يشوبه لا بُدَّ من البلاغ عن هذه القوة الإلهية التي آمنا بها ، والبلاغ يكون بإرسال الرسل . لذلك قال سبحانه : { ٱللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ ٱلنَّاسِ … } .