Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 23, Ayat: 50-50)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
بعد أن أعطانا هذه اللقطة الموجزة من قصة موسى وهارون انتقل إلى المسيح ابن مريم ، والقرآن في حديثه عن عيسى عليه السلام مرة يقول : ابن مريم ، ومرة يقول : عيسى بن مريم . وتسمية عيسى عليه السلام بأمه هي التي جعلتْ سيدتنا وسيدة نساء العالمين مريم ساعة تُبشَّر بغلام تستنكر ذلك ، وتقول : كيف ولم يمسسني بشر ؟ ولم يخطر ببالها أنها يمكن أنْ تتزوّج وتُنجب ، لماذا ؟ لأن الله سماه ابن مريم ، وما دام سماه بأمه ، إذن : فلن يكون له أب . وليس أصعب على الفتاة من أن تجد نفسها حاملاً ولم يمسسها رجل لأن عِرْض الفتاة أغلى وأعزّ ما تملك ، لذلك مهّد الحق - تبارك وتعالى - لهذه المسألة ، وأعدَّ مريم لاستقبالها ، وأعطاها المناعة اللازمة لمواجهة هذا الأمر العجيب ، كما نفعل الآن في التطعيم ضد الأمراض ، وإعطاء المناعة التي تمنع المرض . فلما دخل زكريا - عليه السلام - على مريم فوجد عندها رزقاً لم يأْتِ به ، وهو كفيلها والمسئول عنها ، سألها : { أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ … } [ آل عمران : 37 ] وكان هذا الردّ من مريم عن فَهْم تام لقضية الرزق ، ولم يكُنْ كلام دراويش ، بدليل أنها قالت بعدها : { إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] . وفي هذا الموقف درس لكل أب ولكل وليّ أمر ورب أسرة أن يسأل أهل بيته عن كل شيء يراه في بيته ولم يأْتِ هو به ، حتى لا يدعَ لأولاده فرصة أنْ تمتد أيديهم إلى ما ليس لهم . لقد انتفع زكريا - عليه السلام - بهذا القول وانتبه إلى هذه الحقيقة ، نعم زكريا يعلم أن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب ، لكن ذلك العلم كان معلومة في حاشية الشعور ، فلما سمعها من مريم خرجتْ إلى بُؤرة شعوره ، وعند ذلك دعا الله أن يرزقه الولد وقد بلغ من الكِبَر عِتياً ، وامرأته عاقر . وكذلك انتفعت بها مريم حين أحسَّتْ بالحمل دون أن يمسسْها بشر فاطمأنتْ لأن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب . وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ … } [ المؤمنون : 50 ] فأخبر سبحانه عن المثنى بالمفرد { آيَةً … } [ المؤمنون : 50 ] لأنهما مشتركان فيها : مريم آية لأنها أنجبت من غير زوج ، وعيسى آية لأنه وُلِد من غير أب ، فالآية إذن لا تكون في أحدهما دون الآخر ، وهما فيها سواء . لذلك يراعي النص القرآني هذه المساواة فيُقَدِّم عيسى في آية : { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً … } [ المؤمنون : 50 ] ويقدم مريم في آية أخرى : { وَجَعَلْنَاهَا وَٱبْنَهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 91 ] هذه العدالة في النص لأنهما سواء في الخبرية لا يتميز أحدهما على الآخر . والآية هي الأمر العجيب الذي يُثبت لنا طلاقة قدرة الخالق في الخَلْق ، وحتى لا يظن البعض أن مسألة الخَلْق مسألة ميكانيكية من أب وأم ، لذلك كان وجه العجب في خَلْق عيسى أن يخرج عن هذه القاعدة ليجعله الله دليلاً على قدرته تعالى ، فإنْ أراد أنْ يخلق خلق من العدم ، أو من أب فقط ، أو من أم فقط ، وحتى في اكتمال العنصرين يوجد الأب والأم ، لكن لا يوجد الإنجاب ، إذن : المسألة إرادة لله عز وجل ، وطلاقة لقدرة إلهية لا حدودَ لها . يقول سبحانه : { لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً … } [ الشورى : 50 ] . والآن نلاحظ أن البعض يحاول منع الإنجاب بشتى الوسائل ، لكن إنْ قُدِّر له مولود جاء رغم أنف الجميع ، ورغم إحكام وسائل منع الحمل التي تفننوا فيها . ثم يقول سبحانه : { وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } [ المؤمنون : 50 ] من الطبيعي بعد أن حملتْ مريم بهذه الطريقة أنْ تُضطهد من قومها وتُطارد ، بل وتستحي هي من الناس وتتحاشى أن يراها أحد ، ألا ترى قوله تعالى عن ابنة شعيب : { فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍ … } [ القصص : 25 ] على استحياء ، لأنها ذهبت لاستدعاء فتىً غريب عنها ، فما بالك بمريم حين يراها القوم حاملاً وليس لها زوج ؟ إنها مسألة أصعب ما تكون على المرأة . لذلك لما سئل الإمام محمد عبده وهو في باريس : بأيِّ وجه قابلتْ عائشة قومها بعد حادثة الإفك ؟ فألهمه الله الجواب وهداه إلى الصواب ، فقال : بالوجه الذي قابلتْ به مريمُ قومَها وقد جاءتْ تحمل ولدها ذلك لأنهم أرادوا أنْ يأخذوها سُبة ومطعناً في جبين الإسلام . ولما كانت مريم بهذه الصفة تولاها الله ودافع عنها ، فهذا يوسف النجار وكان خطيب مريم حين يرى مسألة حَمْلها ، وهو أَغْير الناس عليها بدل أنْ يتشكك فيها ويتهمها يتحوّل قلبه عليها بالعطف ، كما قال تعالى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ … } [ الأنفال : 24 ] . فإذا به يخدمها ويحنُو عليها لأن الله أنزل المسألة على قلبه منزل الرضا ، وكل ما قاله في مجادلة مريم وفي الاستفسار عَمَّا حدث بطريقة مهذبة : يا مريمُ أرأيتِ شجرة بدون بذرة ؟ فضحكتْ مريم وقد فهمت ما يريد وقالت : نعم الشجرة التي أنبتت أول بذرة إنه كلام أهل الإيمان والفهم عن الله . لذلك آواها الله وولدها { وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } [ المؤمنون : 50 ] وساعةَ تسمع كلمة الإيواء تفهم أن شخصاً اضطر إلى مكان يلجأ إليه ويأوي إليه ، وكذلك كانت مريمُ مضطرة تحتاج إلى مكان يحتويها وهي مضطهدة من قومها . ولا بُدَّ في مكان الإيواء هذا أنْ تتوفر فيه مُقوِّمات الحياة ، خاصة لمثل مريم التي تستعد لاستقبال وليدها ، ومقومات الحياة : هواء وماء وطعام . فانظر كيف أعدَّ الحق - سبحانه وتعالى - لمريم مكان الإيواء : { وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍ . . } [ المؤمنون : 50 ] وهي المكان العالي عن الأرض المنخفض عن الجبل ، فهو معتدل الجو لأنه بين الحرارة في الأرض المستوية والبرودة في أعلى الجبل . { ذَاتِ قَرَارٍ … } [ المؤمنون : 50 ] يعني : توفرتْ لها أسباب الاستقرار من ماء وطعام ، فالماء يأتيها من أعلى الجبال ويمرُّ عليها ماءً معيناً ، يعني : تراه بعينك ، والطعام يأتيها من ثمار النخلة التي نزلت يجوارها . ومعلوم أن الربوة هي أنسب الأماكن حيث يمر عليها الماء من أعلى ، ولا يتبقى فيها مياه جوفية تضرُّ بمزروعاتها لأنها تتصرف في الأرض المنخفضة عنها . لذلك ضرب لنا الحق - تبارك وتعالى - المثل للأرض الخصبة التي تؤتي المحصول الوافر ، فقال : { وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ … } [ البقرة : 265 ] . إذن : اختار الله تعالى لمريم القرار الذي تتوفر فيه مقومات الحياة على أعلى مستوى بحيث لا تحتاج أن تنتقل منه إلى غيره . وبعد ذلك يتكلم الحق - سبحانه وتعالى - عن قضية عامة بعد أن تكلَّم عن القرار ومُقوِّمات الحياة ، وهي الطعام والشراب والهواء ، فناسب ذلك أن يتكلم سبحانه عن المطعم : { يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً … } .