Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 23, Ayat: 96-96)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ ٱدْفَعْ … } [ المؤمنون : 96 ] تدل على المدافعة يعني : أمامك خصم يهاجمك ، يريد أن يؤذيك ، وعليك أن تدفعه عنك ، لكن دَفْع بالتي هي أحسن أي : بالطريقة أو الحال التي هي أحسن ، فإنْ أخذك بالشدة فقابِلْه باللين ، فهذه هي الطريقة التي تجمع الناس على دعوتك وتؤلِّفهم من حولك . كما جاء في قوله تعالى : { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ … } [ آل عمران : 159 ] . فإنْ أردتَ أن تعطفهم نحوك فادفع بالتي هي أحسن ، ومن ذلك الموقف الذي حدث من رسول الله يوم الفتح ، يوم أنْ مكّنه ربه من رقاب أعدائه ، ووقف أمامهم يقول : " يا معشر قريش ، ما تظنون أنَّي فاعل بكم ؟ قالوا : خيراً ، أخ كريم وابْنُ أخ كريم ، قال : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " . ونلحظ أنهم كلموه بما يستميل قلبه ويعطفه نحوهم ، وذكَّروه بأواصر القرابة والرحم ، وحدَّثوه بما يُحنِّن قلبه ، ولقّنوه ما ينتفعون هم به : أخ كريم وابن أخ كريم ، ولم يقولوا مثلاً : أنت قائد منتصر تستطيع أن تفعل بنا ما تشاء . وفعلاً كان من هؤلاء ومن ذرياتهم نصراء للإسلام وأعوان لدعوة رسول الله . وقصة فضالة الذي كان يبغض رسول الله ، حتى قال قبل الفتح : والله ما أحد أبغض إليَّ من محمد ، وقد زاد غيظه من رسول الله حينما رآه يدخل مكة ويُحطِّم الأصنام ، فأراد أنْ يشقَّ الصفوف إليه ليقتله ، وبعدها قال : " فو الله ، ما وضعتُ يدي عليه حتى كان أحب خَلْق الله إليَّ " . لكن ماذا ندفع ؟ ندفع السيئة . ونلحظ هنا أن ربنا - تبارك وتعالى - يدعونا أن ندفع السيئة بالتي هي أحسن ، لا بالحسن لأن السيئة يقابلها الحسنة ، إنما ربك يريد أن يرتقي بك في هذا المجال ، فيقول لك : ادفع السيئة بالأحسن . وفي موضع آخر يعطينا ثمرة هذا التصرُّف الإيماني : { فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ] ولو تأملتَ معنى هذه الآية لوجدتَ أن المجازاة من الله ، وليست ممّنْ عاملْتَه هذه المعاملة لأن الله تعالى يقول : { كَأَنَّهُ … } [ فصلت : 34 ] ولم يقل : يصبح لك ولياً حميماً . ذلك لأنك حين تدفع بالتي هي أحسن يخجل منك صاحبك ، ويندم على إساءته لك ، ويحاول أنْ يُعوِّضك عنها فيما بعد ، وألاَّ يعود إلى مثلها مرة أخرى ، لكنه مع كل هذا لا يُسمَّى ولياً حميماً ، إنما هو ولي وحميم لأنه كان سبباً في أنْ يأخذك ربك إلى جانبه ، ويتولاك ويدافع عنك . لذلك لما شتم أحدهم الحسن البصري وسبَّه في أحد المجالس ، وكان في وقت رُطَب البلح أرسل الحسن إليه طبقاً من الرُّطَب وقال لخادمه : اذهب به إلى فلان وقُلْ له : لم يجد سيدي أثمن من هذا يهديه إليك ، وقد بلغه أنك أهديت إليه حسناتك بالأمس ، وهي بلا شك أعظم من هديتي تلك . إذن : من الغباء أن نتناول الآخرين بالهَمْز واللمز والطعن والغيبة فإنك بهذا الفعل كأنك أهديتَ لعدوك حسناتك ، وأعطيتَ أعظم ما تملك لأبغض الناس إليك . ألاَ ترى موقف الأب حين يقسو على ولده ، فيستسلم له الولد ويخضع ، أو يظلمه أخوه فيتحمل ظُلْمه ولا يقابله بالمثل ، ساعتها يحنو الأب على ولده ، ويزداد عطفاً عليه ، ويحرص على ترضيته ، كذلك يعامل الحق - تبارك وتعالى - العباد فيما بينهم من معاملات - ولله المثل الأعلى . لذلك قلنا : لو علم الظالم ما أعده الله للمظلوم من الجزاء لَضنَّ عليه بالظلم لأنه سيظلمه من ناحية ، ويُرضيه الله من ناحية أخرى . ويقال : إنه كان عند أحد الملوك رجل يُنفِّس فيه الملك عن نفسه ، فإنْ غضب استدعى هذا الرجل وراح يشتم فيه ويسبُّه أمام الناس حتى يهدأ ، فإذا أراد أن ينصرف الرجل أخذه على انفراد وأعطاه كيساً من المال ، وفي أحد الأيام احتاج هذا الرجل إلى مال ليقضي أمراً عنده ، فحاول أنْ يتمحّك ليصل إلى الملك ، ثم قال له : ألستَ في حاجة لأنْ تشتمني اليوم ؟ فمسألتنا بهذا الشكل ، إذن : ما عليك إلا أنْ تدفع بالتي هي أحسن ، فإنْ صادفتَ من صاحبك مودة وصفاءً ، وإلا فجزاءُ الله لك أوسع ، وعطاؤه أعظم ، وما أجمل قول الشاعر حين عبَّر عن هذا المعنى : @ يا مَنْ تُضَايِقه الفِعَال مِنَ التي ومِنَ الذيِ ادْفَعْ فدَيْتُكَ بالتي حَتَّى تَرَى فَإذَا الذِي @@ يعني : إن أردتَ الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم فاعمل بالتي هي أحسن . ثم يقول سبحانه : { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ } [ المؤمنون : 96 ] معناه : أنت يا محمد تأخذ بحقك من هؤلاء إذا كنا نحن لا نعرف ما يفعلونه بك ، لكن الحال أننا نعرفه جيداً ونحصيه عليهم ، وقد أعددنا لهم الجزاء المناسب ، فدَعْ هذه المسألة لنا ولا تشغل نفسك بها . وكأن الحق - تبارك وتعالى - يريد أن يُنزِّه ذات رسوله صلى الله عليه وسلم من انفعالات الغضب ، وألاّ ينشغل حتى بمجرد الانفعال لأنه حين يتعرّض لك شخص بسيئة تريد أن تجمع نفسك لترد عليه ، وخصوصاً إذا كان هذا الرد مخالفاً لطبْعِك الحسن وخُلُقك الجميل ، فكأنه يكلفك شيئاً فوق طاقتك . فالله تعالى يريد أن يرحم نبيه وأن يريحه : دَعْكَ منهم ، وفوِّض أمرهم إلينا ، فنحن أعلم بما يصفون أي : بما يكذبون في حقك . ثم يقول الحق سبحانه : { وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ … } .