Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 25, Ayat: 6-6)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ أَنزَلَهُ … } [ الفرقان : 6 ] أي : القرآن مرة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا { ٱلَّذِي يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } [ الفرقان : 6 ] فلا تظن أنك بمجرد خَلْقك قدرْتَ أن تكشف أسرار الله في كونه ، إنما ستظل إلى قيام الساعة تقف على سر ، وتقف عند سر آخر . لماذا ؟ لأن الحق - سبحانه وتعالى - يريد أن يبطل هذه المدعيات ، ويأتي بأشياء غيبية لم تكن تخطر على بال المعاصرين لمحمد ، ثم تتضح هذه الأشياء على مَرِّ القرون ، مع أن القرآن نزل في أُمة أمية ، والرسول الذي نزل عليه القرآن رجل أمي ، ومع ذلك يكشف لنا القرآن كل يوم عن آية جديدة من آيات الله . كما قال سبحانه : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ … } [ فصلت : 53 ] . والحق - تبارك وتعالى - يكشف لرسوله صلى الله عليه وسلم شيئاً من الغيبيات ، ليراها المعاصرون له ليلقم الكفارَ الذين اتهموه حجراً ، فيكشف بعض الأسرار كما حدث في بدر حيث وقف النبي صلى الله عليه وسلم في ساحة المعركة بعد أن عرف أن مكة ألقتْ بفلذات أكبادها وسادتها في المعركة ، وقف يشير بعصاه إلى مصارع الكفار ، ويقول : " هذا مصرع أبي جهل ، وهذا مصرع عتبة بن ربيعة … " . الخ يخطط على الأرض مصارع القوم . ومَنِ الذي يستطيع أن يحكم مسبقاً على معركة فيها كَرٌّ وفَرٌّ ، وضَرْب وانتقال وحركة ، ثم يقول : سيموت فلان في هذا المكان . والوليد بن المغيرة والذي قال عنه القرآن { سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ } [ القلم : 16 ] يعني : ستأتيه ضربة على أنفه تَسِمُه بسِمَة تلازمه ، وبعد المعركة يتفقده القوم فيجدونه كذلك . هذه كلها أسرار من أسرار الكون يخبر بها الحق - تبارك وتعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم ، والرسول يخبر بها أمته في غير مظنَّة العلم بها . ومن ذلك ما يُروى من " أن ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوجتا من ولدين لأبي لهب ، فلما حدثت العداوة بينه وبين رسول الله أمر ولديْه بتطليق ابنتي رسول الله ، وبعدها رأى أحد الولدين رسول الله ماشياً ، فبصق ناحيته ، ورأى رسول الله ذلك فقال له : " أكلك كلب من كلاب الله " . فقال أبو لهب بعد أن علم بهذه الدعوة : أخاف على ولدي من دعوة محمد . وعجيب أنْ يخاف هذا الكافر من دعوة رسول الله ، وهو الذي يتهمه بالسحر وبالكذب ويكفر به وبدعوته . ولما خرج هذا الولد في رحلة التجارة إلى الشام أوصى به القوم أن يحرسوه ، ويجعلوا حوله سياجاً من بضائعهم يحميه خشية أن تنفذ فيه دعوة محمد ، وهذا منه كلام غير منطقي ، فهو يعلم صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأنه مُرْسَل من عند الله ، لكن يمنعه من الإيمان حقده على رسول الله وتكبّره على الحق . وخرج الولد في رحلة التجارة ورغم احتياطهم في حمايته هجم عليه سبع في إحدى الليالي واختطفه من بين أصحابه ، فتعجبوا لأن رسول الله قال : " كلب من كلاب الله " وهذا أسد ليس كلباً . قال أهل العلم : ما دام أن رسول الله نسب الكلب إلى الله ، فكلب الله لا يكون إلا أسداً . فالمعنى : قل يا محمد في الرد عليهم ولإبطال دعاواهم : { أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } [ الفرقان : 6 ] وسوف يفضحكم ويُبطِل افتراءكم على رسول الله من قولكم إفك وكذب وافتراء وأساطير الأولين ، وسوف يُخْزِيكم أمام أعْينِ الناس جميعاً . وعلى عهد رسول الله قامتْ معركة بين الفُرْس والروم غُلبت فيها الروم ، فحزن رسول الله لهزيمة الروم لأنهم أهل كتاب يؤمنون بالله وبالرسل ، أما الفرس فكانوا كفاراً لا يؤمنون بالله ويعبدون النار وغيرها . فمع أنهما يتفقان في تكذيبهم لرسول الله ، إلا أن إيمان الروم بالله جعل رسول الله يتعصب لهم مع أنهم كافرون به ، فعصبية رسول الله لا تكون إلا لربه عز وجل . فلما حزن رسول الله لذلك أنزل الله تعالى عليه : { الۤـمۤ * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ * فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ ٱللَّهِ } [ الروم : 1 - 5 ] . فأيُّ عقل يستطيع أنْ يحكم على معركة ستحدث بعد عدة سنوات ؟ لو أن المعركة ستحدث غداً لأمكن التنبؤ بنتيجتها ، بناءً على حساب العَدد والعُدة والإمكانات العسكرية ، لكن مَنْ يحكم على معركة ستدور رحاها بعد سبع سنين ؟ ومَنْ يجرؤ أن يقولها قرآناً يُتْلَى ويُتعبَّد به إلى يوم القيامة . فلو أن هذه المدة مرَّت ولم يحدث ما أخبر به رسول الله لكفَر به مَنْ آمن وانفضَّ عنه مَنْ حوله . إذن : ما قالها رسول الله قرآناً يُتْلَى ويُتعبَّد به إلا وهو واثق من صِدْق ما يخبر به لأن الذي يخبره ربه - عز وجل - الذي يعلم السرَّ في السماوات والأرض لذلك قال هنا الحق سبحانه وتعالى : { قُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } [ الفرقان : 6 ] . ومن العجيب أن ينتصر الروم على الفُرْس في نفس اليوم الذي انتصر فيه الإيمان على الكفر في غزوة بدر ، هذا اليوم الذي قال الله تعالى عنه : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ ٱللَّهِ … } [ الروم : 4 - 5 ] . وما دام أن الذي أنزل القرآن هو سبحانه الذي يعلم السِّر في السماوات والأرض ، فلن يحدث تضارب أبداً بين منطوق القرآن ومنطوق الأكوان لأن خالقهما واحد - سبحانه وتعالى - فمن أين يأتي الاختلاف أو التضارب ؟ ثم يقول سبحانه : { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [ الفرقان : 6 ] فما مناسبة الحديث عن المغفرة والرحمة هنا ؟ قالوا لأن الله - تبارك وتعالى - يريد أن يترك لهؤلاء القوم الذين يقرعهم مجالاً للتوبة وطريقاً للعودة إليه - عز وجل - وإلى ساحة الإيمان . لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أشار عليه بقتل الكفار : " لعلَّ الله يُخرِج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً " . وكان الصحابة يألمون أشد الألم إنْ أفلتَ أحد رءوس الكفر من القتل في المعركة ، كما حدث مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص قبل إسلامهما ، وهم لا يدرون أن الله تعالى كان يدَّخِرهم للإسلام فيما بعد . فقوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [ الفرقان : 6 ] حتى لا يقطع سبيل العودة إلى الإيمان بمحمد على مَنْ كان كافراً به ، فيقول لهم : على رغم ما حدث منكم . إنْ عُدْتم إلى الجادة وإلى حظيرة الإيمان ففي انتظاركم مغفرة الله ورحمته . والحق - تبارك وتعالى - يُبيِّن لنا هذه المسألة حتى في النزوع العاطفي عند الخَلْق ، فهند بنت عتبة التي أغرتْ وَحْشِياً بقتل حمزة عم رسول الله وأسد الله وأسد رسوله ، ولم تكتف بهذا ، بل مثَّلتْ به بعد مقتله ولاكَتْ كبده رضي الله عنه ، ومع ذلك بعد أنْ أسلمتْ وبايعتْ النبي صلى الله عليه وسلم نُسيت لها هذه الفعلة وكأنها لم تكُنْ . ولما قال أحدهم لعمر بن الخطاب : هذا قاتل أخيك يشير إليه والمراد زيد بن الخطاب ، فما كان من عمر إلا أن قال : وماذا أفعل به وقد هداه الله للإسلام ؟ ثم يقول الحق سبحانه : { وَقَالُواْ مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ … } .