Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 26, Ayat: 100-101)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الشافع من الشَّفْع أي : الاثنين ، والشافع هو الذي يضمُّ صوته إلى صوتك في أمر لا تستطيع أن تناله بذاتك ، فيتوسط لك عند مَنْ لديه هذا الأمر ، والشفاعة في الآخرة لا تكون إلا لمن أَذِن الله له ، يقول تعالى : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ … } [ الأنبياء : 28 ] . ويقول سبحانه : { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ … } [ البقرة : 255 ] . إذن : ليس كل أحد صالحاً للشفاعة مُعداً لها ، وكذلك في الشفاعة في الدنيا فلا يشفع لك إلا صاحب منزلة ومكانة ، وله عند الناس أيَادٍ تحملهم على احترامه وقبول وساطته ، فهي شفاعة مدفوعة الثمن ، فللشافع رصيد من الجميل وسوابق الخير تزيد عما يطلب للمشفوع له . لذلك نرى في الريف مثلاً رجلاً له جاه ومنزلة بين الناس ، فيحكم في النزاعات ويفصل في الدم ، فحين يتدخّل بين خصميْن ترى الجميع ينصاع له ويذعن لحكومته . ومن ذلك ما عرفناه في الشرع من شركة الوجوه ، ومعلوم أن الشركة تحتاج إلى مال أو عمل ، لكن قد يوجد شخص ليس لديه مال ولا يستطيع العمل ، لكن يتمتع بوجاهة ومنزلة بين الناس ، فنأخذه شريكاً معنا بما لديه من هذه الميزة . والحقيقة أن وجاهته ومنزلته بين الناس قُوِّمت بالمال لأنه ما نالها من فراغ ، إنما جاءت نتيجة جَهْد وعمل ومجاملات للناس ، احترموه لأجلها ، فلما زال عنه المال وأنفقه في الخير بَقِي له رصيد من الحب والمكانة بين الناس … ومن ذلك أيضاً شراء العلامة التجارية . ومعنى { وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ الشعراء : 101 ] فرْق بين الشافع والصديق ، فالشافع لا بُدَّ أن تطلب منه أن يشفع لك ، أما الصديق وخاصة الحميم لا ينتظر أن تطلب منه ، إنما يبادرك بالمساعدة ، ووصف الصديق بأنه حميم لأن الصداقة وحدها في هذا الموقف لا تنفع حيث كل إنسان مشغول بنفسه . فإذا لم تكُنْ الصداقة داخلة في الحميمية ، فلن يسأل صديق عن صديقه ، كما قالت تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 34 - 37 ] . وقد أثارت مسألة الشفاعة لغطاً كثيراً من المستشرقين الذين يريدون تصيّد المآخذ على القرآن الكريم ، فجاء أحدهم يقول : تقولون إن القرآن معجزة في البلاغة ، ونحن نرى فيه المعنى الواحد يأتي في أسلوبين ، فإنْ كان الأول بليغاً فالآخر غير بليغ ، وإنْ كان الثاني بليغاً فالأول غير بليغ ، ثم يقول عن مثل هذه الآيات : إنها تكرار لا فائدة منه . ونقول له : أنت تنظر إلى المعنى في إجماله ، وليس لديك الملَكة العربية التي تستقبل بها كلام الله ، ولو كانت عندك هذه الملَكة لما اتهمتَ القرآن ، فكل آية مما تظنه تكراراً إنما هي تأسيس في مكانها لا تصلح إلا له . والآيتان محل الكلام عن الشفاعة في سورة البقرة ، وهما متفقتان في الصدر مختلفتان في العَجْز ، أحدهما : { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً … } [ البقرة : 48 ] . والأخرى : { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً … } [ البقرة : 123 ] . إذن : فصدْر الآيتين متفق ، أما عَجُز الأولى : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ … } [ البقرة : 48 ] . وعَجُز الأخرى : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ … } [ البقرة : 123 ] فهما مختلفتان . وحين تتأمل صَدْرَيْ الآيتين الذي تظنه واحداً في الآيتين تجد أنه مختلف أيضاً ، نعم هو مُتحد في ظاهره ، لكن حين تتأمله تجد أن الضمير فيهما : إما يعود على الشافع ، وإما يعود على المشفوع له ، فإنْ عاد الضمير على المشفوع له نقول له : لا نأخذ منك عدلاً ، ولا تنفعك شفاعة ، وإنْ عاد الضمير على الشافع نقول له : لا نقبل منك شفاعة - ونُقدِّم الشفاعة أولاً - ولا نأخذ منك عدلاً . إذن : ليس في الآيتين تكرار كما تظنون ، فكلٌّ منهما يحمل معنى لا تؤديه الآية الأخرى . وقد أوضحنا هذه المسألة أيضاً في قوله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ … } [ الإسراء : 31 ] . والأخرى : { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ … } [ الأنعام : 151 ] . فصدْرا الآيتين مختلف ، وكذلك العَجْز مختلف ، فعَجُز الأولى : { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم … } [ الإسراء : 31 ] . وعَجُز الأخرى : { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ … } [ الأنعام : 151 ] . وحين نتأمل الآيتين نجد أن لكل منهما معناها الخاص بها ، وليس فيهما تكرار كما يظن البعض . ففي الآية الأولى : { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ … } [ الإسراء : 31 ] إذن : فالفقر غير موجود ، والأب يخاف أن يأتي الفقر بسبب الأولاد ، فهو مشغول برزق الولد ، لا برزقه هو لأنه غني غير محتاج لذلك قدَّم الأولاد في عَجُز الآية ، كأنه يقول للأب : اطمئن فسوف نرزق هؤلاء الأولاد أولاً ، وسوف تُرزَق أنت أيضاً معهم . أما في الآية الأخرى : { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ … } [ الأنعام : 151 ] فالفقر في هذه الحالة موجود فعلاً ، وشُغل الأب برزق نفسه أوْلى من شغله برزق ولده لذلك قال في عَجُز الآية : { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ … } [ الأنعام : 151 ] فقدَّمهم على الأولاد . إذن : لكل آية معناها الذي لا تؤديه عنها الآية الأخرى . ثم يقول الحق سبحانه عنهم أنهم قالوا : { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً … } .