Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 26, Ayat: 227-227)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
كان بعض شعراء المشركين أمثال عبد الله بن الزبعري ، ومسافح الجمحي يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذمونه ، فيلتف الضالون الغاوون من حولهم ، يشجعونهم ويستزيدونهم من هجاء رسول الله ، وفي هؤلاء نزل قوله تعالى : { وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ } الشعراء : 224 ] فأسرع إلى سيدنا رسول الله شعراءُ الإسلام : عبد الله بن رواحة وكعب بن زهير ، وكعب بن مالك ، وحسان بن ثابت ، فقالوا : أنحن من هؤلاء يا رسول الله ؟ فقرأ عليهم رسول الله هذه الآية : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ … } [ الشعراء : 227 ] . فاستثنى الحق - تبارك وتعالى - من الشعراء مَنْ توفَّرت فيه هذه الخصال الأربع { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ … } [ الشعراء : 227 ] أي : ذكروا الله في أشعارهم لينبهوا الناس إلى مواجيد الدين ومواعظ الإيمان ، فيلتفتون إليها ، ثم ينتصرون لرسول الله من الذين هَجَوْه . وكان هؤلاء الثلاثة ينتصرون للإسلام ولرسول الله ، فكلما هجاه الكفار ردُّوا عليهم ، وأبطلوا حُججهم ، ودافعوا عن رسول الله ، حتى " أنه صلى الله عليه وسلم نَصَب منبراً لحسان بن ثابت ، وكان يقول له : " قل وروح القدس معك ، اهجهم وجبريل معك " وقال لكعب بن مالك : " اهجهم ، فإن كلامك أشدُّ عليهم من رَشْق النِّبال " كما سمح لهم بإلقاء الشعر في المسجد لأنهم دخلوا في هذا الاستثناء ، فهم من الذين آمنوا ، وعملوا الصالحات ، وذكروا الله كثيراً ، وهم الذين ينتصرون للإسلام ويُمجِّدون رسول الله ، ويدافعون عنه ، ويردُّون عنه ألسنة الكفار . ومعنى : { وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ … } [ الشعراء : 227 ] أنهم لم يكونوا سفهاء ، ولم يبدأوا الكفار بالهجاء ، إنما ينتصرون لأنفسهم ، ويدفعون ما وقع على الإسلام من ظلم الكافرين لذلك لما هجا أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال أحدهم رداً عليهم : @ أتهْجُوهُ وَلسْتَ لَهُ بكُفْءٍ فَشرُّكما لخيركما الفِدَاءُ فَإنَّ أَبِي وَوَالِدهِ وعِرْضِي لِعْرضِ مُحمدٍ منكمُ وِقَاءُ @@ وقوله تعالى : { مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ … } [ الشعراء : 227 ] ظُلِموا مِمَّنْ ؟ من الذين وقفوا من الدين ومن الرسول موقفَ العداء ، وتعرَّضوا لرسول الله وللمؤمنين به بالإيذاء والكيد ، ظُلِموا من الذين عزلوا رسول الله ، وآله في الشِّعْب حتى أكلوا أوراق الشجر ، من الذين تآمروا على قتله صلى الله عليه وسلم إلى أنْ هاجر . ومن رحمته تعالى وحكمته أنْ أباح للمظلوم أنْ ينتصر لنفسه ، وأنْ يُنفِّس عنها ما يعانيه من وطأة الظلم ، حتى لا تُكبتَ بداخله هذه المشاعر ، ولا بُدَّ لها أن تنفجر ، فقال سبحانه : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [ النحل : 126 ] . وقال تعالى : { لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ … } [ النساء : 148 ] . فأباح للمظلوم أن يُعبِّر عن نفسه ، وأن يرفض الظلم ، ولا عليه إنْ جهر بكلمة تُخفِّف عنه ما يشعر به من ظلم . ثم تختم السورة بقوله تعالى : { وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } [ الشعراء : 227 ] يعني : غداً سيعلمون مرجعهم ونهايتهم كيف تكون ؟ والمنقلب هو المرجع والمآب ، والمصير الذي ينتظرهم . فالحق - تبارك وتعالى - يتوعدهم بما يؤذيهم ، وبما يسوؤهم فلن تنتهي المسألة بانتصار المسلمين عليهم ، إنما ينتظرهم جزاء آخر في الآخرة . كما قال سبحانه في موضع آخر : { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ … } [ الطور : 47 ] . لذلك أبهم الله تعالى هذا المنقلب ، وإبهامه للتعظيم والتهويل ، وقد بلغ من العِظَم أنه لا يُوصف ولا تؤدي العبارة مؤداه ، كما أبهم العذاب في قوله تعالى : { فَغَشِيَهُمْ مِّنَ ٱلْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ } [ طه : 78 ] . يعني : شيء عظيم لا يُقَال ، والإبهام هنا أبلغ لأن العقل يذهب في تصوّره كل مذهب ، وعلى كل كيفية . والمنقلب أو المرجع لا يُمدح في ذاته ، ولا يُذمُّ في ذاته ، فإن انتهى إلى السوء فهو مُنقلب سيء ، وإنِ انتهى إلى خير فهو مُنقلَب حسن ، فالذي نحن بصدده من مُنقلَب الكافرين المعاندين لرسول الله منقلب سيء يُذَم . أما مُنْقلَب سحرة فرعون مثلاً حين قال لهم : { آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ … } [ طه : 71 ] . فماذا قالوا ؟ { قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } [ الشعراء : 50 ] فهذا مُنقلَب حَسَن يُمدح ويُحمد . وقد يظن المرء أن مُنقلَبه مُنقلَب خير ، وأنه سينتهي إلى ما يُفرِح ، وهو واهم مخدوع في عمله ينتظر الخير ، والله تعالى يُعِد له منقلباً آخر ، كالذي أعطاه الله الجنتين من أعناب وحففهما بنخل ، وجعل بينهما زرعاً ، فلما غرَّته نعمة الدنيا ظنَّ أن له مثلها ، أو خيراً منها في الآخرة ، فقال : { وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [ الكهف : 36 ] . والانقلاب والمرجع إلى الله - عز وجل - إنما يفرح به مَنْ آمن بالله وعمل صالحاً لأنه يعلم أنه سيصير إلى جزاء من الحق - سبحانه وتعالى - مؤكد لذلك الحق - تبارك وتعالى - يُعلِّمنا حين نركب الدواب التي تحملنا { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ … } [ النحل : 7 ] . علَّمنا أن نذكره سبحانه : { وَٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْفُلْكِ وَٱلأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا ٱسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } [ الزخرف : 12 - 14 ] . إذن : فالدوابّ وما يحلّ محلّها الآن من وسائل المواصلات من أعظم نِعَم الله علينا ، ولولا أن الله سخَّرها لنا ما كان لنا قدرة عليها ، ولا طاقة بتسخيرها لذلك نقول { وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } [ الزخرف : 13 ] . أي : لا نستطيع ترويضه ، فالصبي الصغير نراه يقود الجمل الضخم ، ويُنيخه ويُحمّله الأثقال وهو طائع منقاد ، لكنه يفزع إنْ رأى ثعباناً صغيراً ، لماذا ؟ لأن الله - سبحانه وتعالى - سخَّر لنا الجمل وذَلَّله ، ولم يُسخِّر لنا الثعبان . وصدق الله العظيم إذ يقول سبحانه : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [ يس : 71 - 72 ] . ولكن ما علاقة قولنا : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } [ الزخرف : 13 ] بقولنا : { وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } [ الزخرف : 14 ] . قالوا : لأننا سننقلب إلى الله في الآخرة ، وسنُسأل عن هذا النعيم ، فإنْ شكرنا ربنا على هذه النعمة فقد أدَّيْنا حقها ، ومَنْ شكر الله على نعمة في الدنيا لا يسأل عنها في الآخرة لأنه أدَّى حقَّها . وقال سبحانه : { وَسَيَعْلَمْ … } [ الشعراء : 227 ] بالسين الدالة على الاستقبال ، لكنها لا تعني طول الزمن كما يظن البعض لأن الله تعالى أخفى الموت ميعاداً ، وأخفاه سبباً ومكاناً ، وهذا الإبهام للموت هو عَيْن البيان ، لأنك في هذه الحالة ستنتظره وتتوقعه في كل وقت ، ولو علم الإنسانُ موعد موته لقال : أفعل ما أريد ثم أتوب قبل أن أموت . إذن : الوقت الذي تقتضيه السين هنا لا يطول ، فقد يفاجئك الموت ، وليس بعد الموت عمل أو توبة ، واقرأ قوله تعالى : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات : 46 ] . وقلنا : إن في الآية { وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } [ الشعراء : 227 ] تهديداً ووعيداً ، الحق - تبارك وتعالى - حين يُضخّم الوعيد إنما يريد الرحمة بخَلْقه ، وهو مُحِبٌّ لهم ، فيهددهم الآن ليَسلموا غداً ، ويُنبِّههم ليعودوا إليه ، فينالوا جزاءه ورحمته . وكأنه - تبارك وتعالى - يريد من وراء هذا التهديد أن يُوزِّع رحمته لا جبروته ، كما تقسو على ولدك ليذاكر وتهدده ليجتهد . إذن : فالوعد بالخير خير ، والوعيد بالشر أيضاً خير ، فكل ما يأتيك من ربك ، فاعلم أنه خير لك ، حتى وإنْ كان تهديداً ووعيداً . وهكذا قدمتْ لنا سورة الشعراء نموذجاً من تسلية الحق - تبارك وتعالى - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم والتخفيف عنه ما يلاقي من حزن وألم على حال قومه وعدم إيمانهم ، وعرضَتْ عليه صلى الله عليه وسلم موكب الرسل ، وكيف أن الله أيَّدهم ونصرهم وهزم أعداءهم ودحرهم . ثم سلاَّه ربه بأنْ رَدَّ على الكفار في افتراءاتهم ، وأبطل حججهم ، وأبان زَيْف قضاياهم ، ثم تختم هذه التسلية ببيان أن للظالمين عاقبة سيئة تنتظرهم وأبهم هذه العاقبة { أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } [ الشعراء : 227 ] ليضخمها . والشيء إذا حُدِّد إنما يأتي على لَوْن واحد ، وإنْ أُبهِم كان أبلغ لأن النفس تذهب في تصوُّره كل مذْهب ، كما لو تأخّر مسافر عن موعد عودته فنجلس ننتظره في قلق تسرّح بنا الظنون في سبب تأخره ، وفي احتمالات ما يمكن أنْ يحدث ، وتتوارد على خواطرنا الأوهام ، وكل وهم يَرِد في نفسك بألم ولذعة ، في حين أن الواقع شيء واحد .