Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 26, Ayat: 88-89)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ } [ الشعراء : 88 ] فأتى بالمسألة التي تشغل الناس جميعاً ، فكل إنسان يريد أن يكون غنياً صاحب مال وأولاد وعِزْوة ، ومَنْ حُرِم واحدة منهما حَزِن وألم أشدّ الألم . والحق تبارك وتعالى يقول : { ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا … } [ الكهف : 46 ] . ويقول سبحانه : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ … } [ آل عمران : 14 ] . نعم ، هي زينة الحياة الدنيا ، ومعنى الزينة : الحُسْن غير الذاتي ، فالحُسْن قد يكون ذاتياً في الجوهر كالمرأة التي تكون جميلة بطبيعتها التي خلقها الله عليها ، دون أنْ تتكلّف الجمال ، أو الزينة الظاهرة من مساحيق أو ذهب أو خلافه ، لذلك سمَّوْها في اللغة الغانية وهي التي استغنْت بجمالها الطبيعي الذاتي عن أنْ تتزّين بأيِّ شيء آخر . وقوله : { إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 89 ] يعني : مع أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا ، فهذا لا يمنع نفعهما لصاحبهما إنْ أحسن التصرُّف في ماله ، فأنفقه في الخير ، وأحسن تربية أولاده التربية الصالحة ، لكن هذه أيضاً لا تصفو له ولا تستقيم إلا إذا { أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 89 ] . يعني : توفّر له الإخلاص في هذا كله ، وإلاَّ فالرياء يُحبط العمل ، ويجعله هباءً منثوراً ، إنْ كنتَ تفعل الخير في الدنيا ولا تؤمن بالله ولا تُنزهه سبحانه عن الشريك ، فلن ينفعك عملك ، ولن يكون لك منه نصيب في ثواب الآخرة . كما قال تعالى : { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] . وفي الحديث القدسي : " … فعلت ليقال وقد قيل … " . فعلتَ ليُقام لك حفل تكريم وقد أقيم لك ، فعلتَ لتأخذ نيشاناً وقد أخذتَه ، فعلتَ ليُكتب اسمك على باب المسجد وقد كُتِب ، إذن : انتهت المسألة . فقوله تعالى : { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ } [ الشعراء : 88 ] لا ينفي نفع المال والبنين ، فهي نافعة شريطة أنْ تأتي اللهَ بقلب سليم ، والسلامة هنا تعني : أن يظلَ الشيء على حاله وعلى صلاحه الذي خلقه الله عليه لا يصيبه عطب في ذاته ، فيؤدي مهمته كما ينبغي . فكأن السلامة تُوجد أولاً ، ونحن الذين نُفسِد هذه السلامة . ومن ذلك قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } [ البقرة : 11 - 12 ] . لذلك لو تأمّل الناس فيما يُتعبهم في الحياة لوجدوا أنه ثمرة إفسادهم في الكون المنظم الذي خلقه الله على مقتضى حكمته تعالى ، بدليل أن كل حركة في الكون لا يتدخل فيها الإنسان تراها مُستقيمة منتظمة لا تتخلف ، فإنْ تدخَّل الإنسان وُجِد الفساد ووُجِد الظلم للغير ، حتى للنبات وللجماد وللحيوان ، وقد نهانا الشارع الحكيم عن هذا كله . هذا إنْ تدخّل الإنسان في الكون على غير مقتضى منهج ربه ، فإنْ تدخَّل على هَدْى من منهج الله استقامتْ الأمور وتحققتْ السلامة . ألا ترى قوله تعالى في سورة الرحمن : { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ } [ الرحمن : 5 - 7 ] . لذلك تجد كل شيء في الكون موزوناً بقدر وبحكمة : الشمس والقمر والنجوم والهواء والماء … الخ وكل عناصر الكون هذه تسير مستقيمة في منظومة الكون المتكاملة ، لماذا ؟ لأنه لا دَخْلَ للإنسان فيها . فمعنى القلب السليم : القلب الذي لا يعمُر إلا بما أراد الله أنْ يعمُرَ به ، وقد ورد في الحديث القدسي : " ما وسعتني أرضي ولا سمائي ، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن " . إذن : لا تزحم قلبك بما يَشْغَله من أمور الدنيا ، واجعله خالياً لله مُنْشغلاً به ، فهذه هي سلامة القلب لأن القلب مفطور على هذا ، مطبوع عليه … ساعة خلقه الله خلقه صافياً سليماً من المشاغل لذلك يقول سبحانه : { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ … } [ النحل : 78 ] لماذا ؟ { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] . إذن : لا تأخذ المال والبنين منفصليْن عن سلامة القلب لأن ربك يقول : { وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } [ الكهف : 46 ] . وفي آية : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ … } [ آل عمران : 14 ] ختمها الحق سبحانه بقوله : { ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ } [ آل عمران : 14 ] . ومن سلامة القلب أن يخلو من الشرك ، وأن يخلو من النفاق لأن المنافق يؤمن بلسانه ، ولا يؤمن بقلبه ، فقلبه لا يوافق لسانه لذلك هو غير سليم القلب ، فكان أشد إثماً من الكافر ، وجعله الله في الدَّرْك الأسفل من النار . المنافق أشد تعذيباً من الكافر لأن الكافر مع كُفْره هو منطقيّ مع نفسه ، حيث كفر بقلبه وبلسانه ، ونطق بما يعتقده ، أما المنافق فقد غشَّنا وحُسِب علينا ظاهراً ، ومنهم مَنْ كان يصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف الأول ، وهو في حقيقة الأمر من الطابور الخامس داخل صفوف المسلمين . وكذلك الرياء ينافي سلامة القلب ، فالمرائي يعمل للناس ولا يعمل لله ، ونعجب حين نرى مَنْ يُقدِّم الجميل رياءً وسُمْعة ، ثم يتهم مَنْ أسدى إليه الجميل بأنه ناكر للجميل ، نقول له : لماذا تتهمه وقد سبقته فأنكرتَ جميل الله ، حيث لم تجعله على بالك حين فعلتَ الخير . إذن : فهذا جزاؤك جزاءً وفاقاً ، لأنك ما فعلتَ الخير لله ، إنما فعلته للعبد فانتظر منه الجزاء . وصَفْقَة المرائي خاسرة ، وتجارته بائرة لأنه حين يعطي رياءً يستفيد منه الآخذ ويخرج هو صُفْر اليدين ، كما قال سبحانه : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً … } [ البقرة : 264 ] . وبعد ذلك ترى الناس تكره المرائي ، ويُنكرون جميله في بناء مسجد أو مستشفى أو مدرسة مثلاً ، ولو عمل ذلك لله لأبقى الله ذِكْره بين الناس ، فحفظوا جميله ، وأَثنَوْا عليه بالخير . " ويُرْوى أن السيدة فاطمة الزهراء دخل عليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدها تجلو درهماً في يدها ، فلما سألها عنه قالت : لأنّي قد نويتُ أنْ أتصدّق به ، فقال لها : تصدَّقي به وهو على حاله ، فقالت : أنا أعلم أنه يقع في يد الله قبل أن يقع في يد الفقير ، والله طيب لا يقبل إلا طيباً " . ثم يذكر الحق - تبارك وتعالى - نتيجة سلامة القلب وثمرة الإخلاص في العلم ، فيقول : { وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ … } .