Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 1-1)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
سبق أنْ تكلمنا كثيراً عن الحروف المقطعة في بدايات سور القرآن ، كلما تكررت هذه الظاهرة نتكلم عن مجالات الأذهان في فهمها ، وما دام الحق سبحانه يُكررها فعلينا أيضاً أن نُكرِّر الحديث عنها ، ولماذا ينثر الله هذه الظاهرة في سور القرآن ؟ لتظل دائماً على البال . وقلنا : إن القرآن الكريم مبنيٌّ في كل آياته وسوره على الوَصْل ، لا على الوقف ، اقرأ : { مُدْهَآمَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 64 - 67 ] . فلم يقل { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 65 ] ويقف ، إنما وصل : { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } [ الرحمن : 66 ] لأن القرآن موصول ، لا فصلَ أبداً بين آياته لذلك ليس في القرآن من وقف واجب ، إنما لك أن تقف لضيق النفَس ، لكن حينما تعيد تعيد بالوصل . وكذلك القرآن مبنيٌّ على الوَصْل في السور ، فحين تنتهي سورة لا تنتهي على سكون ، فلم يَقُلْ - سبحانه وتعالى - وإليه ترجعونْ بسكون النون ، إنما تُرْجَعُونَ بسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيم ليبدأ سورة أخرى موصولة . فهذه إذن سمة عامة في آيات القرآن وسُوره إلا في الحروف المقطَّعة في أوائل السور ، فهي مبنية على الوقف ألفْ لامْ ميمْ هكذا بالسكون ولم يقل : ألفٌ لامٌ ميمٌ على الوَصْل ، لماذا ؟ لأنها حروف مُقطَّعة ، قد يظنها البعض كلمة واحدة ، ففصَل بينها بالوقف . لذلك يقول صلى الله عليه وسلم : " لا أقول الم حرف . ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف " وليؤكد هذا المعنى جعلها على الوقف ، كل حرف على حدة . وتكلمنا على هذه الحروف وقلنا : إنها خامات القرآن ، فمن مثل هذه الحروف يُنسَج كلام الله ، وقلنا : إنك إنْ أردتَ أن تُميِّز مهارة النسْج عند بعض العمال مثلاً لا تعطي أحدهم قطناً ، والآخر صوفاً ، والآخر حريراً مثلاً لأنك لا تستطيع التمييز بينهم ، لأن الخامات مختلفة ، فالحرير بطبيعته سيكون أنعم وأرقَّ . فإنْ أردتَ معرفة المهارة فوحِّد المادة الخام عند الجميع . فكأن الحق - تبارك وتعالى - يقول لنا : إن القرآن مُعْجز ، بدليل أنكم تملكون نفس حروفه ، ومع ذلك عجزتُمْ عن معارضته ، فقد استخدم القرآن نفس حروفكم ، ونفس كلماتكم وألفاظكم ، وجاء بها في صورة بليغة ، عَزَّ عليكم الإتيان بمثلها . إذن : اختلف أسلوب القرآن ، لأن الله تعالى هو الذي يتكلم . فمعنى الم هذه نفس حروفكم فأتوا بمثلها . أو : الم تحمل معنى من المعاني لأن ألف لام ميم أسماء حروف ، وأسماء الحروف لا يعرفها إلا المتعلم ، فالأُميُّ يقول كتب لكن لا يعرف أسماء حروفها ، وتقول للولد الصغير في المدرسة : تهجَّ كتب فيقول لك كاف فتحة كَ و تاء فتحة تَ و باء فتحة بَ . إذن : لا يعرف أسماء الحروف إلا المتعلم ، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمياً ، فمن أين نطق بأسماء الحروف الم ، طه ، يس ، ق . . إلخ . إذن : لا بُدَّ أن ربه علّمه ولقّنه هذه الحروف ، ومن هنا جاءت أهمية التلقين والتلقّي في تعلُّم القرآن ، وإلا فكيف يُفرِّق المتعلم بين الم هنا وبين { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] فينطق الأولى على الوقْف ، والأخرى على الوَصْل ، ينطق الأولى بأسماء الحروف ، والثانية بمُسمَّياتها ؟ وتحمل الم أيضاً معنى التنبيه للسامع ، فالقرآن نزل بأسلوب العرب ولغتهم ، فلا بُدَّ أن تتوفر له خصائص العربية والعربية الراقية ، فلو قرأنا مثلاً في الشعر الجاهلي نجد عمرو بن كلثوم يقول : @ أَلاَ هُبِّي بصَحْنِك فَاصْبِحينَا ولاَ تُبقِي خمور الأندرينا @@ نسأل : ماذا أفادت أَلاَ هنا ، والمعنى يصح بدونها ؟ ألا لها معنى عند العربي لأنها تنبهه إنْ كان غافلاً حتى لا يفوته شيء من كلام مُحدِّثه ، حينما يُفَاجأ به ، كما تنادي أنت الآن مَنْ لا تعرفه فتقول : اسمع يا … كأنك تقول له : تنبه لأنني سأكلمك . والتنبيه جاء في اللغة من أن المتكلم يتكلَّم برغبته في أي وقت ، أما السامع فقد يكون غافلاً غير مُنتبه ، أو ليس عنده استعداد لأنْ يسمعَ ، فيحتاج لمن يُنبِّهه ليفهم ما يُقال له ، إنما لو فاجأتَه بالمراد ، فربما فاته منه شيء قبل أنْ يتنبه لك . وكذلك في الم حروف للتنبيه ، على أنه سيأتي كلام نفيس اسمعه جيداً ، إياك أنْ يضيع منك حرف واحد منه . كما يصح أنْ يكون لهذه الحروف معانٍ أخرى ، يفهمها غيرنا ممَّنْ فتح الله عليهم . فهي - إذن - معين لا ينضب ، يأخذ منه كُلٌّ على قَدْره . ثم يقول الحق سبحانه : { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن … } .