Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 29-29)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ … } [ العنكبوت : 29 ] دلالة على انحراف الغريزة الجنسية عندهم ، والغريزة الجنسية جعلها الله في الإنسان لبقاء النوع ، فالحكمة منها التناسل ، والتناسل لا يكون إلا بين ذكر وأنثى ، حيث تستقبل الأُنثى الحيوان المنوي الذكَري الذي تحتضنه البويضة الأنثوية ، وتعلق في جدار الرحم وتكوّن الجنين لذلك سمَّى الله تعالى المرأة حَرْثاً لأنها مكان الاستنبات ، وشَرْط في إتيان المرأة أن يكون في مكان الاستنبات . لذلك ، فالجماعة الذين كانوا ينادون بتشريع للمرأة يسمح للرجل بأن يأتيها كيفما يشاء ، احتجوا بقوله تعالى : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ … } [ البقرة : 223 ] . ونقول لهؤلاء : لقد أخطأتم في فَهْم الآية ، فالحَرْث هو الزرع المستنبت من الأرض ، فمعنى { أَنَّىٰ شِئْتُمْ … } [ البقرة : 223 ] أي : أنهم حرث ، إذن : فاحتجاجهم باطل ، وبطلانه يأتي من عدم فهمهم لمعنى الحرث ، وعليه يكون المعنى ائتوهن على أيِّ وجه من الوجوه شريطة أن يكون في مكان الحَرْث . ولحكمةٍ ربط الحق سبحانه بقاء النوع بالغريزة الجنسية ، وجعل لها لذة ومتعة تفوق أيَّ لذة أخرى في الحياة ، فمثلاً أنت ترى المنظر الجميل فتُسَرُّ به عينك ، وتسمع الصوت العَذْب فتسعد به أذنك … إلخ فكل منافذ الإدراك لديك لها أشياء تمتعها . لكن بأيِّ هذه الحواس تُدْرَك اللذة الجنسية ؟ وأيّ ملكة فيك تُسَرُّ منها ؟ كلُّ الحواس وكُلُّ الملكات تستمتع بها لذلك لا يستطيع الإنسان مقاومتها ، حتى قالوا : إنها اللحظة الوحيدة التي يمكن للإنسان فيها أنْ يغفل عن ربه لذلك أمرنا بعدها بالاغتسال . ولولا أن الخالق - عز وجل - ربط مسألة بقاء النوع بهذه اللذة لَزهد فيها كثير من الناس ، لما لها من تبعات ومسئوليات ومشاكل ، لا بُدَّ منها في تربية الأولاد . وسبق أن ذكرنا الحكمة القائلة : " جَدَع الحلال أنفَ الغيرة " فالرجل يغَار على ابنته مثلاً ، ولا يقبل مجرد نظر الغرباء إليها ، ويثور إذا تعرَّض لها أحد ، فإذا جاءه الشاب يطرق بابه ليخطب ابنته رحَّب به ، واستقبله أهل البيت بالزغاريد وعلى الرَّحْب والسعة ، فسقوا الشربات وأقاموا الزينات ، فما الفرق بين الحالين ؟ في الأولى كان دمه يغلي ، والآن تنزل كلمات الله في عقد القرآن على قلبه بَرْداً وسلاماً . أما خسيسة قوم لوط { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ … } [ العنكبوت : 29 ] فهي انحراف عن الطبيعة السَّوية لا بقاءَ فيها للنوع ، ومثلها إتيان المرأة في غير مكان الحرث . وقوله تعالى : { وَتَقْطَعُونَ ٱلسَّبِيلَ … } [ العنكبوت : 29 ] أي : تقطعون الطريق على بقاء النوع لأن الزنا وإنْ جاء بالولد فإنه لا يُوفر له البقاء الكريم الشريف في المجتمع . فالحق سبحانه جعل لبقاء النوع طريقاً واحداً ، فلا تسلك غير هذا الطريق ، لا مع رجل ولا مع امرأة . والسبيل كلمة مطلقة وتعني الطريق ، سواء كان الطريق المادي أي : الشارع الذي نمشي فيه أو : المعنوي وهو الطريقة التي نسير عليها ، ومنها قوله تعالى : { قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ … } [ يوسف : 108 ] أي : طريقي ومنهجي لذلك السبيل القيمي سبيل واحد ، حتى لا نتصادم ولا نتخاصم في حركة الحياة المعنوية ، أمّا السبيل المادي فمتعدد حتى لا نتزاحم في حركة الحياة المادية . والسبيل المادي الطريق الذي نسير فيه يُعَدُّ سمة الحضارة في أي أُمة ، ونذكر أن هتلر قبل أن يدخل الحرب سنة 1939 جعل كل همِّه في إنشاء شبكة من الطرق لأن حركة الحرب غير العادية تحتاج إلى طرق إضافية أيام الحرب ، ومن ذلك مثلاً الطريق الذي يُسمُّونه طريق المعاهدة ، أي معاهدة سنة 1936 . إذن : كلما وُجدت حركة زائدة احتاجت إلى طرق إضافية ، وهذه الطرق تتناسب والمكان الذي تنشأ فيه ، فالطرق في المدن نُسمِّيها شوارع وفي الخلاء نسميها طرقاً تناسب المساحة داخل المباني ، ومنها تتفرع الحارات ، وهي أقل منها ، ومن الحارة تتفرع العَطْفة ، وهي أقل من الحارة ، وكلما ازدحمتْ البلاد لجأ الناس إلى توسيع نظام الحركة لتيسير مصالح الناس . كما نرى في القاهرة مثلاً من أنفاق وكَبَارٍ ، حتى لا تُعاق الحركة ، وحتى نوفر للناس انسيابية فيها . والأنفاق أنسب للجمال في المدن ، والكباري أجمل في الفضاء ، حيث ترى مع ارتفاع الكباري آفاقاً أوسع ومناظر أجمل ، أما إنْ حدث عكس ذلك فأُنشئت الكباري داخل الشوارع فإنها تُقلِّل من جمال المكان وتُحوِّل الشارع إلى أشبه ما يكون بعنابر الورش ، كما أنها تؤذي سكان العمارات المجاورة لها . وعلى الدولة أن تراعي هذه الأمور عند التخطيط ، ألم نقرأ قوله تعالى : { ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ } [ عبس : 20 ] لا بُدَّ أن نُيسِّر السبل للسالكين لأن معايش الناس وحركتهم تعتمد على الحركة في هذه الطرق . فقوله تعالى : { وَتَقْطَعُونَ ٱلسَّبِيلَ … } [ العنكبوت : 29 ] فكان من قوم لوط قُطَّاع طرق كالذين يخرجون على الناس في أسفارهم وحركتهم ، فيأخذون أموالهم وينهبون ما معهم ، وإنْ تأبوا عليهم قتلوهم . وبعد أن قطعوا السبيل على الناس قطعوا السبيل على بقاء النوع . يقول سبحانه في حقهم : { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ ٱلْمُنْكَرَ … } [ العنكبوت : 29 ] فكانوا لا يتورعون عن فِعْل القبيح وقوله فيجلسون في الطرقات يستهزئون بالمارة ويؤذونهم كالذين يجلسون الآن على المقاهي ويتسكعون في الطرق ويؤذون خَلْق الله ، ويتجاهرون بالقبيح من القول والفعل ، فلا يسْلَم من إيذائهم أحد . لذلك يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم آداب الطريق ، " فيقول لمن سأله : " وما حَقُّ الطريق يا رسول الله ؟ قال : غَضُّ البصر ، وكَفُّ الأذى ، وردُّ السلام " . وقد انتشر بين قوم لوط سوء الأخلاق ، بحيث لا ينهى بعضهم بعضاً ، كما قال سبحانه عن اليهود أنهم : { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ … } [ المائدة : 79 ] . والنادي : مكان تجمُّع القوم ، ومنه قوله تعالى : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } [ العلق : 17 ] أي : مكان تجمُّع رؤوس القوم وكبارهم ، كما نرى الآن : نادي كذا ، ونادي كذا . والنادي وهو مكان عام يُعَدُّ المرحلة الأخيرة لانضباط السلوك الذي يجب أن يكون في المجتمع ، فأنت مثلاً لك حجرة في بيتك خاصة بك ، ولك فيها انضباط خاص بنفسك ، وكذلك في صالة البيت لك انضباط أوسع ، وفي الشارع لك انضباط أوسع . والانضباط يتناسب مع الواقع الذي تعيشه ، فحين تكون مثلاً بين أناس لا يعرفونك لا يكون انضباطك بنفس الدرجة التي تحرص عليها بين مَنْ تعرفهم كالموظف في مكتبه ، والطالب في مدرسته . إذن : فهؤلاء القوم قطعوا السبيل في بقاء النوع ، حيث أتوا غير مَأْتيٍّ وانحرفوا عن الفطرة السَّوية ، وقطعوا السبيل المادي ، فأخافوا الناس وروَّعوهم ونهبوا أموالهم ، وأخذوهم من الطرق بغرض هذه الفِعْلة النكراء ، ثم كانوا يتبجحون بأفعالهم هذه ، ويجاهرون بها في أنديتهم وأماكن تجمعاتهم . فبماذا أجابه القوم ؟ { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتِنَا بِعَذَابِ ٱللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } [ العنكبوت : 29 ] أي : من الصادقين في أنك مُبلِّغ عن الله ، فنحن من العاصين ، وأَرِنا العذاب الذي تتوعدنا به ، وقولهم { ٱئْتِنَا بِعَذَابِ ٱللَّهِ … } [ العنكبوت : 29 ] مع أن العذاب شيء مؤلم ، ولا يطلب أحد إيلام نفسه ، فهذا دليل على عدم فهمهم لهذا الكلام ، وأنهم غير متأكدين من صدقه ، وإلا لو وَثِقوا بصدقه ما طلبوا العذاب . وفي موضع آخر ، حكى القرآن عنهم : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَخْرِجُوۤاْ آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [ النمل : 56 ] . إذن : حدث منهم موقفان وجوابان : الأول { ٱئْتِنَا بِعَذَابِ ٱللَّهِ … } [ العنكبوت : 29 ] فلما لم يُجبهم إلى هذا الطلب الأحمق ، وظل يتابع دعوته لهم ، فلم ييأس منهم لجأوا إلى حيلة أخرى ، فقالوا { أَخْرِجُوۤاْ آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ … } [ النمل : 56 ] والعلة { إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [ النمل : 56 ] لأن الطّهْر في نظر هؤلاء عيب ، والاستقامة جريمة ، وهذا دليل على فساد عقولهم ، وفساد قياسهم في الحكم . ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ رَبِّ ٱنصُرْنِي … } .