Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 64-64)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الحياة : نعرفها بأنها ما يكون في الإنسان الأعلى في الوجود من حِسٍّ وحركة ، فإذا انتهى حِسُّه وحركته لم تَعُدْ له حياة ، وهذه الحياة موصوفة هنا بأوصاف ثلاثة : دنيا ولهو ولعب ، كلمة دنيا تدل على أن مقابلها عُلْيا فساعة تسمع هذا الوصف " الحياة الدنيا " فاعلم أن هذا الوصف ما جاء إلا ليميزها عن حياة أخرى ، تشترك معها في أنها حياة لله إلا أنها حياة عليا ، هذه الحياة العُلْيا هي التي قال عنها ربنا - تبارك وتعالى - " الدار الآخرة " . وإنْ كنا قد عرَّفنا الحياة الدنيا بأنها الحِسُّ والحركة في الإنسان ، فالواقع عند التقنين أن لكل شيء في الوجود حياةً تُناسب مهمته ، بدليل قوله تعالى حين يُنهي هذه الحياة : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ … } [ القصص : 88 ] . فما يُقال له شيء لا بُدَّ أنْ يطرأ عليه الهلاك ، والهلاك تقابله الحياة ، بدليل قوله سبحانه : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ … } [ الأنفال : 42 ] . فالحياة ضد الهلاك ، إلا أنك تعرف الحياة عندك بالحس والحركة ، وكذلك الحياة في كل شيء بحسبه ، حتى في الجماد حياة نلحظها في أن الجبل يتكون من أصناف كثيرة من الحجارة ، ترتقي مع الزمن من حجارة إلى أشياء أخرى أعلى من الحجارة وأثمن ، وما دامت يطرأ عليها هذا التغيير فلا بُدَّ أن فيها حياةً وتفاعلاً لا ندركه نحن . إذن : فكل شيء له حياة ، لكن الآفة أننا نريد حياة كالتي فينا نحن ، وأذكر نحن في مراحل التعليم قالوا لنا : هناك شيء اسمه المغناطيس ، وعملية اسمها المغنطة ، فحين تُمغنط قطعة من الحديد تُكسِبها قدرة على جَذْب قطعة أخرى وفي اتجاه معين ، إذن : في الحديد حياة وحركة وتفاعل ، لكن ليس عندك الآلة التي تدرك بها هذه الحركة ، وفيها ذرات داخلية لا تُدرَك بالعين المجردة تم تعديلها بالمغنطة إلى جهة معينة . واقرأ قوله تعالى : { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ … } [ فصلت : 21 ] فللجوارح نفسها حياة ، ولها كلام ومنطق ، لكن لا ندركه نحن لأن حياتها ليست كحياتنا . إنك لو تتبعتَ مثلاً طبقاً أو كوباً من البلاستيك لوجدته تغيَّر لونه مع مرور الزمن ، وتغيُّر اللون فيه يدل على وجود حياة وحركة بين ذراته ، ولو لم تكُنْ فيه حياة لكان جامداً مثل الزجاج ، لا يطرأ عليه تغيُّر اللون . والحق - تبارك وتعالى - يصف الدار الآخرة بأنها { ٱلْحَيَوَانُ … } [ العنكبوت : 64 ] وفرْق بين الحياة والحيوان ، الحياة هي هذه التي نحياها في الدنيا يحياها الأفراد ، ويحياها النبات ، ثم تؤول إلى الموت والفناء ، أمّا الحيوان فيعني الحياة الأرقى في الآخرة لأنها حياة باقية حياة حقيقية . والحق - سبحانه وتعالى - أعطانا صورة للحياة الدنيا ، الحياة المادية في قوله تعالى عن آدم { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي … } [ الحجر : 29 ] فمن الطين خَلق آدم ، وسوَّاه ونفخ فيه من روحه تعالى ، فدبَّتْ فيه الحياة المادية . لكن هناك حياة أخرى أسمى من هذه يقول الله عنها : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ … } [ الأنفال : 24 ] فكيف يخاطبهم بذلك وهم أحياء ؟ لا بُدَّ أن المراد حياة أخرى غير هذه الحياة المادية ، المراد حياة الروح والقيم والمنهج الذي يأتي به رسول الله . لذلك سمَّى المنهج روحاً { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا … } [ الشورى : 52 ] وسمَّى الملَك الذي نزل به روحاً : { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [ الشعراء : 193 ] . إذن : { وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ … } [ العنكبوت : 64 ] أي : الحياة الحقيقية التي لا تفوتها ولا تفوتك ، ولا يفارقك نعيمها ، ولا يُنغِّصه عليك شيء ، كما أن التنعُّم في الدنيا على قَدْر إمكاناتك وأسبابك ، أمّا في الآخرة فالنعيم على قَدْر إمكانات المنعم سبحانه وتعالى . ثم يأتي وَصْف الدنيا بأنها لَهْو ولَعِب ، وهما حركتان من حركات جوارح الإنسان ، لكنها حركة لا مَقصدَ لها إلا الحركة في ذاتها دون هدف منها لذلك نقول لمن يعمل عملاً لا فائدة منه " عبث " . إذن : اللهو واللعب عبث ، لكن يختلفان من ناحية أخرى ، فاللعب حركة لا فائدة منها ، لكنه لا يصرفك عن واجب يعطي فائدة ، كالولد حين يلعب ، فاللعب لا يصرفه عن شيء إذن : فاللعب لمن لم يبلغ ، أمّا البالغ المكلف فاللعب في حقِّه يسمى لَهْواً ، لأنه كُلِّف فترك ما كُلِّف به إلى ما لم يكلّف به ، ولَهَا عن الواجب ، ومنه : لَهْو الحديث . فقوله تعالى { وَمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ … } [ العنكبوت : 64 ] أي : إنْ جُرِّدت عن الحياة الأخرى حياة القيم التي تأتي باتباع المنهاج . وقوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 64 ] يُحتمل أن تكون الجملة هنا امتناعية يعني : امتنع علمهم بها ، أو تكون تمنياً يعني : يا ليتهم يعلمون هذه الحقيقة ، حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة لأنهم لو علموها لأقبلوا على منهج ربهم لينالوا كُلَّ هذا العطاء الممتدّ ، ولَسلكوا طريق الإيمان بدل طريق الكفر ، فكأن المعنى أنهم لم يعرفوا . ثم يقول الحق سبحانه : { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ … } .