Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 104-104)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وكلمة " أمة " تطلق مرة ، ويراد بها الجماعة التي تنتسب إلى جنس ، كأمة العرب ، أو أمة الفرس ، أو أمة الروم ، ومرة تطلق كلمة " أمة " ويراد بها الملة أي الدين ، ومرة ثالثة تطلق كلمة " أمة " ويراد بها الفترة الزمنية كقول الحق : { وَقَالَ ٱلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } [ يوسف : 45 ] . إن الرجل الذي فسر له سيدنا يوسف الرؤيا تذكر سيدنا يوسف بعد أمة أي بعد فترة من الزمن ، ومرة تطلق كلمة " أمة " على الرجل الجامع لصفات الخير . { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 120 ] . لأن خصال الخير ليس من الضروري أن تجتمع في واحد ، ولكنها قد تجتمع في عدد من الأفراد فيكون هناك فلان المتميز بالصفة الطيبة ، وغيره متصف بصفة أخرى طيبة ، وثالث فيه صفة طيبة ثالثة ، ومن مجموع الأمة تظهر صورة الكمال ، لكن إبراهيم عليه السلام اجتمعت فيه كل خصال الخير المكتمل . وساعة أن تأتي لإنسان وتقول له : ليكن منك شجاع فما معنى ذلك ؟ إن معناه ، أن يجرد الإنسان من نفسه ويخرج منها شخصاً شجاعاً ، وذلك بتدريبها وتعويدها على ذلك حتى يكون الإنسان شجاعاً ، أو تقول لآخر : ليكن منك كريم ، أي أخرج من نفسك رجلاً كريماً . وقوله الحق سبحانه : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ } [ آل عمران : 104 ] . هذا القول يعني أن يكون منكم أيها المخاطبون أمة تدعو إلى الخير ، ومعناه أيضاً أن تكونوا جميعاً أمة تدعو إلى الخير ، وبعض العلماء يرى أن هذا القول يعني : أن تكون منكم جماعة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . ولكنّ هناك فهما أعمق من هذا ، وهو أن هذه الآية تأمر بأن تكون كل جماعة المسلمين أمة تدعو إلى الخير ، وتأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر ، أي أن هذه الآية تطالب كُلَّ أمة المسلمين بذلك ، فلا تختص جماعة منها فقط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل الواجب أن تكون أمة المسلمين كلها آمرة بالمعروف ، وناهية عن المنكر ، فمن يعرف حكماً من الأحكام عليه أن يأمر به . وهناك من العلماء من قال : إن الذي يأتي المنكر له حكم آخر أيضاً وهو أن ينهى غيره عن المنكر ، أي أن الإنسان المؤمن مطالب بأمرين : الأول : ألاّ يصنع المنكر ، والثاني : أن ينهى عن المنكر . ولذلك إن جاء نصح من إنسان ينهاك عن المنكر ، وهو قد فعله ، فلا تقل له : أصلح نفسك واتبع أنت ما تنصح به أولاً ، لا تقل له ذلك حتى لا يقول لك ما قاله الشاعر : @ خذ بعلمي ولا تركن إلى عملي واجن الثمار وخل العود للنار @@ لكن الأجدر بمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون أول العاملين بقوله حتى لا يدخل في زمرة من قال الله فيهم : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 - 3 ] . إذن فقوله الحق : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ } [ آل عمران : 104 ] أي جردوا من أنفسكم أمة مجتمعة على أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، واستمعوا إلى قوله تعالى : { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } [ العصر : 1 - 3 ] . إن السورة الكريمة توضح العقيدة ومطلوبها وهو الإيمان والعمل الصالح . وبعد ذلك قال الحق : " وتواصوا " ولم يقل " ووصوا " ما معنى " تواصوا " ؟ أي أن يعرف كل مؤمن أنه من الأغيار ، وكذلك أخوه المؤمن ، وقد يضعف أحَدهما أمام معصية فيصنعها ، لكن الآخر غير ضعيف أمام تلك المعصية ، لذلك يكون على غير الضعيف توصية الضعيف ، وعلى الضعيف أيضاً ضرورة الانتباه حتى يتواصى مع غيره . فالإسلام لم يجعل جماعة يوصون غيرهم ، وجماعة أخرى تتلقى الوصاية ، بل كلنا موص - بكسر الصاد - حينما نجد مَنْ من يضعف أمام معصية . وكلنا موصىً ، - بفتح الصاد - حين يكون ضعيفاً أمام المعصية فالتواصي يقتضي التفاعل بين جانبين … فمرة تكون موصياً ، ومرة تكون موصىً ، وكذلك التواصي بالصبر . فساعة تحدث كارثة لواحد من المسلمين يأتي أخوه ليصبره ، وكذلك إن حدثت كارثة للأخ المسلم يصبره أخوه المسلم ، فعندما يحتاج مسلم في وقت ما إلى أن يُصَبَّر ، يجد من إخوته من يصبره فالأمة كلها مطالبة : " وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " . هكذا نفهم معنى قول الحق : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [ آل عمران : 104 ] . والدعوة إلى الخير يفسرها الحق بأن يأمر الإنسان بالمعروف ، وأن ينهى عن المنكر . ويقول الحق : { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [ آل عمران : 104 ] أن كلمة " المفلحون " هي كلمة معها دليلها ، فالمفلح هو الذي أخذ الصفقة الرابحة . والكلمة مأخوذة ، من فلح الأرض . فالذي يفلح الأرض ويحرثها ثم يزرعها يجد الثمرة تجيئه في النهاية ، وقد جاء الحق بالمسألة المعنوية من أمر محس . وبعد ذلك يريد الحق أن يعطينا شيئاً آخر فيقول : إياك أن تظن أن المشقة التي تصيبك حين تفعل خيراً لا تعود عليك بالراحة ، أو أن النقص الذي تفعل به الخير لا يعود عليك بالكمال ، فمثلاً الإنسان الذي فلح الأرض وأخرج " كيلة " من القمح وبذرها فيها . هذا الإنسان قد تكون له زوجة حمقاء تقول له : إننا لا نملك إلا أربع " كيلات " من القمح فكيف تأخذ " كيلة " لترميها في الأرض ، إن هذه المرأة لا تعرف أن " الكيلة " التي أخذها الزوج هي التي ستأتي بعدد من الأرادب من القمح . فإياك أن تفهم أن الإسلام يأخذ منك شيئاً إلا وهو يريد أن يعطيك أشياء . إن الفلاح الذي يشقى بالحرث وبالري ، وتراه وقد علا جبهته العرق وتراب الأرض وتغوص أقدامه في الطين والمياه ، إنك تراه يوم الحصاد وهو فرح مسرور بِغَلَّته . أما غيره الذي لم يشْقَ بالحرث ولم تعل جبهته حبات العرق ، فيأتي في هذا اليوم وهو حزين ونادم . فإياك أن تنظر إلى تكاليف الدين على أنها أمور تحرمك النفع ، إنَّها أمور تربّب لك النفع أي تكثر لك النفع . وإياك أن تظن أن حكماً من أحكام الله قد جاء ليجور على حريتك بل جاء ليمنع عنك اعتداء الآخرين . وقلنا من قبل : إن الشرع حين كلف كل إنسان ألا يسرق مال أحد ، فهو تقييد من أجل حفظ أموال الملايين ، وهو أمر ضمني لكل الناس ألاَّ يسرقوا شيئاً من هذا الإنسان ، وهنا نجد الأمان ينتشر بالإيمان بين الجميع . ولو نظرت إلى ما منع الدين الناس أن يمارسوه معك لعرفت قيمة التكاليف الإيمانية . إن التكليف حين يأمر ألا يمد أحد عيونه إلى محارم جاره ، هذا التكليف صادر للناس جميعاً حتى يحمي الله لك محارمك من عيون الناس ، لقد قَيَّد التكليف حرية الآخرين من أجلك وهم كثيرون ، وقيد حريتك من أجل الآخرين وأنت واحد … إذن فيجب أن نذكر أن كل تكليف يعطي صلاحاً وفلاحاً ، فالأرض تأخذ الحبة وتعطيك سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، فلا تنظر إلى ما أخذه التكليف من حريتك ، لأنه أخذ لك من حريات الآخرين أيضاً . ولا تقل : إن التكليف قد نقص حركتي لنفسي ، لأنه سيعطيك ثمرات أكثر مما أفقدك . ويقول الحق من بعد ذلك : { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ … } .