Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 13-13)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وحين يقول الحق : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ } [ آل عمران : 13 ] . فمَنْ المُخَاطَب بهذه الآية ؟ لا شك أن المخاطب بهذه الآية كل مَنْ كانت حياته بعد هذه الواقعة ، سواء كان مؤمناً أو كافراً ، فالمؤمن تؤكد له أن نصر الله يأتي ولو من غير أسباب ، والكافر تأتي له الآية بالعبرة في أن الله يخذله ولو بالأسباب ، إن الله جعل من تلك الموقعة آية . والآية هي الشيء العجيب أَيْ إن واقعه ونتائجه لا تأتي وَفق المقدمات البشرية . نعم هذا خطاب عام لكل من ينتسب إلى أيِّ فئة من الفئتين المتقاتلين ، سواء كانت فئة الإيمان أو فئة الكفر . ففئة الإيمان لكي تفهم أنه ليست الأسباب المادية هي كل شيء في المعركة بين الحق والباطل ، لأن لله جنوداً لا يرونها . وكذلك يُخطِّئ هذا الخطاب فئة الكافرين فلا يقولون : إن لنا أسبابنا من عدد وعُدَّة قوية ، فقد وقعت المعركة بين الحق والباطل من قبل وقد انتصر الحق . وكلمة " فئة " إذا سمعتها تصورت جماعة من الناس ، ولكن لها خصوصيّة فقد توجد جماعة ولكن لكل واحد حركة في الحياة . ولكن حين نسمع كلمة " فئة " فهي تدل على جماعة ، وهي بصدد عمل واحد . ففي غير الحرب كل واحد له حركة قد تختلف عن حركة الآخر . ولكن كلمة " فئة " تدل على جماعة من الناس لها حركة واحدة في عمل واحد لغاية واحدة . ولا شك أن الحرب تصور هذه العملية أدق تصوير ، بل إن الحرب هي التي تُوَحّد كل فئةٍ في سبيل الحركةِ الواحدة والعمل الواحد للغاية الواحدة لأن كل واحد من أي فئة لا يستطيع أن يحمي نفسه وحده ، فكل واحد يفئ ويرجع إلى الجماعة ، ولا يستطيع أن ينفصل عن جماعته . ولكن الفرد في حركة الحياة العادية يستطيع أن ينفصل عن جماعته . إذن فكلمة " فئة " تدل على جماعة من الناس في عملية واحدة ، وتأتي الكلمة دائماً في الحرب لتصور كل معسكر يواجه آخر . وحين يقول الحق : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا } [ آل عمران : 13 ] أي أن هناك صراعاً بين فئتين ، ويوضح الحق ماهية كل فئة فيقول : { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ } [ آل عمران : 13 ] . وحين ندقق النظر في النص القرآني ، نجد أن الحق لم يورد لنا وصف الفئة التي تقاتل في سبيل الله ولم يذكر أنها فئة مؤمنة ، وأوضح أن الفئة الأخرى كافرة ، وهذا يعني أنّ الفئة التي تقاتل في سبيل الله لابد أن تكون فئة مؤمنة ، ولم يورد الحق أن الفئة الكافرة تقاتل في سبيل الشيطان اكتفاء بأن كفرها لابد أن يقودها إلى أن تقاتل في سبيل الشيطان . لقد حذف الحق من وصف الفئة الأولى ما يدل عليه في وصف الفئة الثانية . وعرفنا وصف الفئة التي تقاتل في سبيل الله من مقابلها في الآية وهي الفئة الأخرى . فمقابل الكافرة مؤمنة ، وعرفنا - أيضاً - أن الفئة الكافرة إنما تقاتل في سبيل الشيطان لمجرد معرفتنا أن الفئة الأولى المؤمنة تقاتل في سبيل الله . ويسمون ذلك في اللغة " احتباك " . وهو أن تحذف من الأول نظير ما أثبت في الثاني ، وتحذف من الثاني نظير ما أثبت في الأول ، وذلك حتى لا تكرر القول ، وحتى توضح الالتحام بين القتال في سبيل الله والإيمان ، والقتال في سبيل الشيطان والكفر . إذن فالآية على هذا المعنى توضح لنا الآتي : لقد كان لكم آية ، أي أمر عجيب جداً لا يسير ولا يتفق مع منطق الأسباب الواقعية في فئتين ، فعندما التقت الفئة المؤمنة في قتال مع الفئة الكافرة ، استطاعت الجماعة المؤمنة المحددة بالغاية التي تقاتل من أجلها - وهي القتال في سبيل الله - أن تنتصر على الفئة الكافرة التي تقاتل في سبيل الشيطان . وبعد ذلك يقول الحق : { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ ٱلْعَيْنِ } [ آل عمران : 13 ] فنحن أمام فئتين ، فمن الذي يَرى ؟ ومن الذي يُرى ؟ ومن الرائي ومن المرئي ؟ إن كان الرائي هم المؤمنين فالمرئي هم الكافرون . وإن كان الرائي هم الكافرين فالمرئي هم المؤمنون ولنر الأمر على المعنيين : فإن كان الكافرون هم الذين يرون المؤمنين ، فإنهم يرونهم مثليهم أي ضعف عددهم ، وكان عدد الكافرين يقرب من ألف . إذن فالكافرون يرون المؤمنين ضعف أنفسهم ، أي ألفين . وقد يكون المعنى مؤدياً إلى أن المؤمنين يرون الكافرين ضعف عددهم الفعلي . وقد يؤدى المعنى الى أن الكافرين يرون المؤمنين ضعف عددهم وكان عدد المؤمنين يقرب من ثلاثمائة وأربعة عشر ، وضعف هذا العدد هو ستمائة وثمانية وعشرون مقاتلاً . فأن أخذنا معنى " مثليهم " على عدد المؤمنين ، فالكافرون يرونهم حوالي ستمائة وثمانية وعشرين مقاتلاً ، وإن أخذنا معنى " مثليهم " على عدد الكافرين فالكافرون يرون المؤمنين حوالي ألفين . وما الهدف من ذلك ؟ إن الحق سبحانه يتكلم عن المواجهة بين الكفر والإيمان حيث ينصر الله الإيمان على الكفر . وبعض من الذين يتصيدون للقرآن يقولون : كيف يقول القرآن : { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ ٱلْعَيْنِ } [ آل عمران : 13 ] وهو يقول في موقع آخر : { إِذْ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِيۤ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِيۤ أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } [ الأنفال : 43 - 44 ] . وهذه الآية تثبت كثرة ، سواء كثرة المؤمنين أو كثرة الكافرين ، والآية التي نحن بصدد تناولها بالخواطر الإيمانية تثبت قلة ، والمشككون في القرآن يقولون : كيف يتناول القرآن موقعة واحدة على أمرين مختلفين ؟ ونقول لهؤلاء المشككين : أنتم قليلو الفطنة لأن هناك فرقاً بين الشجاعة في الإقبال على المعركة وبين الروح العملية والمعنوية التي تسيطر على المقاتل أثناء المعركة ، والحق سبحانه قد تكلم عن الحالين : قلل الحق هؤلاء في أعين هؤلاء ، وقلل هؤلاء في أعين هؤلاء ، لأن المؤمنين حين يرون الكافرين قليلاً فإنهم يتزودون بالجرأة وطاقة الإيمان ليحققوا النصر . والكافرون عندما يرون المؤمنين قلة فإنهم يستهينون بهم ويتراخون عند مواجهتهم . ولكن عندما تلتحم المعركة فما الذي يحدث ؟ لقد دخلوا جميعاً المعركة على أمل القلة في الأعداد المواجهة ، فما الذي يحدث في أعصابهم ؟ إن المؤمن يدخل المعركة بالاستعداد المكثف لمواجهة الكفار . وأعصاب الكافر تخور لأن العدد أصبح على غير ما توقع ، إذن فقول الحق : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِيۤ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِيۤ أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } [ الأنفال : 44 ] . يُصور الحالة قبل المعركة لأن الله لا يريد أن يتهيب طرف من طرف فلا تنشأ المعركة . لكن ما إن تبدأ المعركة حتى يقلب الحق الأمور على عكسها ، إنه ينقل الشيء من الضد إلى الضد . ونقل الشيء من الضد إيذان بأن قادراً أعلى يقود المشاعر والأحاسيس ، والقدرة العالية تستطيع أن تصنع في المشاعر ما تريد . لقد قلل الحق الأعداد أولاً حتى لا يتهيبوا المعركة ، وفي وقت المعركة جعلهم الله كثيراً في أعين بعضهم البعض ، فترى كلّ فئةٍ الطرف الآخر كثيراً ، فتتفجر طاقات الشجاعة المؤمنة من نفوس المؤمنين فيقبلون على القتال بحماسة ، وتخور نفوس الكافرين عندما يواجهون أعداداً أكثر مما يتوقعون . والحق سبحانه وتعالى يقول : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ ٱلْعَيْنِ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } [ آل عمران : 13 ] . إن هذه الآية هي خبر تبشيري لكل مؤمن بالنصر ، وهي في الوقت نفسه خبر إنذاري لكل كافر بأن الهزيمة سوف تلحق به إن واجه الجماعة المؤمنة . فإياكم أن تقيموا الأمور بمقاييس الأسباب ، فالأسباب المطلوبة منكم هي المقدور عليها للبشر وعليكم أن تتركوا تتمة كل ذلك للقدر ، فلا تخور الفئة المؤمنة أمام عدد كثير ، ولا تغتروا معشر الكفار بأعدادكم الكثيرة فالسابقة أمامكم تؤكد أن عدداً قليلاً من المؤمنين قد غلب عدداً كثيراً من الكافرين . ومن معاني الآية - أيضاً - أن الكافرين يرون المؤمنين مثلي عدد الكافرين ، أي ضعف عددهم . ومن معانيها - ثالثاً - أن الكافرين يرون المؤمنين ضعف عدد المؤمنين الفعلي . ومن معاني الآية - رابعاً - أن يرى المسلمون الكافرين مثليهم ، أي مثل المؤمنين مرتين ، أي ستمائة نفر وقليلاً ، وحينئذ يكون عدد الكافرين في عيون المؤمنين أقل من العدد الفعلي لهؤلاء الكافرين . إذن فما حكاية " مثليهم " هذه ؟ لقد وعد الله المؤمنين بنصره حين قال : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } [ الأنفال : 65 ] . والنسبة هنا أن المؤمن الواحد يخرج إلى عشرة من الكافرين فيهزمهم ، ذلك وعد الله ، وحين أراد الله التخفيف قال الحق : { ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } [ الأنفال : 66 ] . لقد خفف الله النسبة ، فواحد من المؤمنين يغلب اثنين من الكافرين . فالمؤمنون موعودون من الله بالغلبة حتى وهم ضعاف . والحق يقول في الآية المبشرة للمؤمنين ، المنذرة للكافرين ، والتي نحن بصددها الآن : { وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } [ آل عمران : 13 ] . ونحن نسمع كلمة " عبرة " كثيراً ، والمادة المأخوذة منها تدل على الدخول من مكان إلى مكان ، فيقال عن ذلك " عُبور " ، ونحن في حياتنا العادية نخصص في الشوارع أماكن لعبور المشاة ، أي المسافة التي يمكن للمشاة أن ينفذوا منها من ضفة الشارع إلى الضفة الأخرى من الشارع نفسه . وعبور البحر هو النفاذ من شاطئ إلى شاطئ آخر . إذن فمادة " العبور " تدل على النفاذ من مكان إلى مكان ، و " العَبرة " أي الدمعة لأنها تسقط من محلها من العين على الخد . و " العِبارة " أي الجملة التي نتكلم بها ، فهي تنتقل من الفم إلى الأذن ، وهي عبور أيضاً . و " العبير " أي الرائحة الجميلة التي تنتقل من الوردة البعيدة عن الإنسان قليلاً لتنفذ إلى أنفه . إذن فمادة " العبور " تدل على " النفاذ " . وحين يقول الحق : { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً } [ آل عمران : 13 ] . أي تنقلكم من أمر قد يخيفكم أيها المؤمنون لأنكم قليل ، وهم كثير ، إنها تنقلكم إلى نصر الله أيها المؤمنون ، وتنقلكم أيها الكافرون إلى الهزيمة برغم كثرة عُدتكم وعَددكم . فالعبرة هي حدث ينقلك من شيء إلى شيء مغاير ، كالظالم الذي نرى فيه يوماً ، ونقول إن ذلك عبرة لنا ، أي إنها نقلتنا من رؤيته في الطغيان إلى رؤيته في المهانة . وهكذا تكون العبرة هي العظمة اللافتة والناقلة من حكم إلى حكم قد يستغربه الذهن ، فتذييل هذه الآية الكريمة بهذا المعنى هو إيضاح وبيان كامل ، فالحق يقول في بداية هذه الآية : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا } [ آل عمران : 13 ] وتنتهي الآية بقوله : { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } [ آل عمران : 13 ] . إذن فالعبرة شيء ينقلنا من أمر إلى أمر قد تستغربه الأسباب وذلك إن كنت متروكا لسياسة نفسك ، لكن المؤمن ليس متروكا لسياسة نفسه لأن الله لو أراد أن يعذب الكفار بدون مواجهة المؤمنين وحربهم لعذبهم بدون ذلك ، ولكن الله يريد أن يكون عذاب الكافرين بأيدي المؤمنين : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } [ التوبة : 14 ] . ولو كان الله يريد أن يعذب الكافرين بغير أيدي المؤمنين لأحدث ظاهرة في الكون تعذبهم ، كزلزال يحدث ويدمرهم ، ولكن الله يريد أن يعذب الكافرين بأيدي المؤمنين . { وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } [ آل عمران : 13 ] ، و " الأيد " هو القوة ، إذن فهو يريد منك فقط النواة العملية ، ثم بعد ذلك يكملها الله بالنصر ، " وأيَّده " أي قواه ، ويؤيد الله بنصره من يشاء ، وتكون العبرة لأولي الأبصار . وقد يقول قائل : أتكون العبرة لأولي الأبصار أم لأولي البصائر ؟ وهنا نقول : إن العبرة هنا لأولي الأبصار لأن الأمر الذي تتحدث عنه الآية هو أمر مشهدي ، أمر محسوس ، فمن له عينان عليه أن يبصر بهما ، فإذا كان التفكير والتدبير ليس أمراً موهوباً لكل مخلوق من البشر ، فإن البصر موجود للغالبية من الناس ، وكل منهم يستطيع أن يفتح عينيه ليرى هذا الأمر المشهدي . وإذا ما نظرنا إلى المعركة بذاتها وجدنا الدليل الكامل على صدق العبارة فالمؤمنون قلة وعددهم معروف محدود ، وعتادهم قليل ، ولم يخرجوا بقصد حرب ، إنما خرجوا لقصد الاستيلاء على العير المحملة بالأرزاق من طعام وكسوة تعويضاً عما اغتصبه المشركون من أموالهم في مكة ، ولو أنّهم استولوا على العير فقط لما كان النصر عظيما بالدرجة التي كان عليها لأن العِير عادة لا تسير بعتاد ضخم إنما تحفظ بالحراسة فقط . ولكن الله يريد لهم النصر على ذات الشوكة ، أي الطائفة القوية المسلحة ، لقد وعدهم الله بالنصر على إحدى الطائفتين : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَافِرِينَ } [ الأنفال : 7 ] . لقد كان وعد الله أن ينصر المؤمنين على إحدى الطائفتين ، والأمل البشرى كان يود الانتصار على طائفة غير ذات الشوكة أي الطائفة غير المسلحة وهي العير ، ولكن مثل هذا النصر لا يكون له دَوِيُّ النصر على الطائفة المسلحة ، فقد كان من السهل أن يقال : إن محمداً ومن معه تعرضوا لجماعة من التجار لا أسلحة معهم ولا جيش ، ولكن الله يريد أن يجعل من هذه المعركة فرقانا وأن يحق الحق . إنكم أيها المؤمنون لم تخرجوا إلاَّ لِقصد العير أي لم يكن استعدادكم كافيا للقتال ، أما الكفار فقد جاءوا بالنفير ، أي بكل قوتهم فقد ألقت مكة في هذه المعركة بأفلاذ أكبادها . وعندما يأتي النصر من الله للمؤمنين في مثل هذه الموقعة فهو نصر حقيقي ، ويكون آية غاية في العجب من آيات الله . وتصير عبرة للغير . لذلك نجد العجائب في هذه المعركة - معركة بدر - . الغرائب أنك تجد الأخوين يكون لكل منهما موقف ومجابهة . وتجد الأب والابن لكل منهما موقف ومجابهة برغم عمق الصلة بينهما ، فمثلاً ابن أبي بكر رضي الله عنه ، وكان هذا الابن لم يسلم بعد ، وكان في جانب الكفار ، وأبوه الصديق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعد أن أسلم ابن أبي بكر يحكي الابن لأبيه بشيء من الامتنان والبر : لقد تراءيت لي يوم بدر فزويت وجهي عنك . فيرد أبو بكر الرد الإيماني الصدِّيقي : والله لو تراءيت لي أنت لقتلتك . وكلا الموقفين منطقي ، لماذا ؟ لأن ابن أبي بكر حين يلتقي بأبي بكر ، ويرى وجه أبيه ، فإنه يقارن بين أبي بكر وبين ماذا ؟ إنه يقارن بين أبيه وبين باطل ، ويعرف تمام العلم أنه باطل ، فيرجح عند ابن أبي بكر أبوه ، ولذلك يحافظ على أبيه فلا يلمسه . ولكنَّ أبا بكر الصديق حينما يقارن فهو يقارن بين الإيمان بالله وابنه ، ومن المؤكد أن الإيمان يزيد عند الصديق أبي بكر ، فلو رآه يوم بدر لقتله . ولله حكمة فيمن قُتل على أيدي المؤمنين من مجرمي الحرب من قريش ، ولله حكمة فيمن أبقى من الكفار بغير قتل لأن هؤلاء مدخرون لقضية إيمانية كبرى سوف يبلون فيها البلاء الحسن . فلو مات خالد بن الوليد في وقعة من المواقع التي كان فيها في جانب الكفر لحزنا نحن المسلمين لأن الله قد ادخره لمعارك إيمانية يكون فيها سيف الله المسلول ، ولو مات عكرمة لفقدت أمة الإسلام مقاتلاً عبقرياً . لقد حزن المسلمون في موقعة بدر لأنهم لم يقتلوا هؤلاء الفرسان لأنهم لم يعلموا حكمة الله في ادخار هؤلاء المقاتلين لينضموا فيما بعد إلى صفوف الإيمان . والله لم يمكِّن مقاتلي المسلمين يوم بدر من المحاربين الذين كانوا على دين قومهم آنئذٍ إلاّ لأن الله قد ادخرهم لمواقع إيمانية قادمة يقفون فيها ، ويحاربون في صفوف المؤمنين ، وهذا نصر جديد . ونرى أبا عزيز وهو شقيق الصحابي مصعب بن عمير الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبشر بدين الله ، ويعلِّم أهل المدينة ، وكان مصعب فتى فريش المدلل صاحب ترف ، وأُمُّهُ صاحبة ثراء ، وبعد ذلك رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبس جلد شاة بعد أن كان يلبس الحرير ، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انظروا إلى الإيمان ماذا فعل بصاحبكم " . والتقى مصعب في المعركة مع أخيه أبي عزيز ، وأبو عزيز على الكفر ، ومصعب رضي الله عنه مسلم يقف مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وحين يرى مصعب رضي الله عنه أخاه أبا عزيز وهو أسير لصحابي اسمه أبو اليسر ، فيقول مصعب : يا أبا اليسر اشدد على أسيرك فإن أُمَّه غنية وذات متاع ، وستفديه بمال كثير . فيقول له أخوه أبو عزيز : أهذه وصاتك بأخيك ؟ فيقول مصعب مشيراً إلى أبي اليسر : هذا أخي دونك . كانت هذه هي الروح الإيمانية التي تجعل الفئة القليلة تنتصر على أهل الكفر ، طاقة إيمانية ضخمة تتغلب على عاطفة الأخوة ، وعاطفة الأبوة ، وعاطفة البنوة . وقد جعل الله من موقعة بدر آية حتى لا يخور مؤمن وإن قل عدد المؤمنين ، أو قلت عُدَتهم ، وحتى لا يغتر كافر ، وإن كثر عددُ قومه وعتادهم . وقد جعلها الله آية للصدق الإيماني ، ولذلك يقال : احرص على الموت توهب لك الحياة . وقد كانت القضية الإيمانية هي التي تملأ نفس المؤمن ، إنَّها قضية عميقة متغلغلة في النفوس . ولماذا يتربص الكفار بالمؤمنين ؟ إنهم إن تربصوا بهم ، فسيدخل المؤمنون الجنة إن قُتِلوا أو ينتصرون على الكفار ، وفي ذلك يقول الحق على لسان المؤمنين : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ } [ التوبة : 52 ] . فالظفر هنا بأحد أمرين : إما النصر على الكافرين ، وإما الاستشهاد في سبيل الله ، ونيل منزلة الشهداء في الجنة وكلاهما جميل . والمؤمنون يتربصون بالكافرين ، إما أن يصيب الله الكافرين بعذاب من عنده ، وإما أن يصيبهم بأيدي المؤمنين . إنها معادلة إيمانية واضحة جلية . وبعد ذلك يقول الحق سبحانه : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ … } .