Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 27-27)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
إن الحق يقول لنا : عندكم ظاهرة تختلف عليكم ، وهي الليل والنهار ، وظاهرة أخرى ، هي الحياة والموت . إن ظاهرة الليل والنهار كلنا نعرفها لأنها آية من الآيات العجيبة ، والحق يقول عنها : { تُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلْنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ } [ آل عمران : 27 ] إن الحق لم يصنع النهار بكمية محددة من الوقت متشابهة في كل مرة ، لا ، إنه سبحانه شاء لليل أن ينقص أحياناً عن النهار خمس ساعات ، وأحياناً يزيد النهار على الليل خمس ساعات . ولنا أن نتساءل … هل تنقص الخمس الساعات من الليل أو النهار مرة واحدة وفجأة ؟ هل يفاجئنا النهار بعد أن يكون اثنتي عشرة ساعة ليصبح سبع عشرة ساعة ؟ هل يكون الليل مفاجئاً لنا في الطول أو القصر ؟ لا ، إن المسألة تأتي تباعاً ، بالدورة ، بحيث لا تحس ذلك ، إن هناك نوعاً من الحركة اسمها الحركة الترسية . إننا عندما ننظر إلى الساعة التي تدور نجد أن دورتها تعتمد على التروس ، فهل يمشي عقرب الساعة في كل الزمن ؟ لا ، إن كل ترس له زمن يتوقف فيه ، وعندما يتوقف فإننا ندفع به ليعيد دورته ، ويعمل ، وإذا دققنا النظر في عقرب الدقائق فإننا نستطيع أن نلحظ ذلك . إذن هناك فترة توقف وسكون بين انتقال عقرب الدقائق من دقيقة إلى أخرى ، وهذا اللون من الحركة نسميه " حركة ترسية " ، وهناك حركة أخرى ثانية ، نسميها " حركة انسيابية " ، بحيث يكون كل جزء من الزمن له حركة ، كما يحدث الأمر في ظاهرة النمو بالنسبة للإنسان والنبات والحيوان . إن الطفل الوليد لا يكبر من الصباح إلى المساء بشكل جزئي ، أو محسوس ، إنه يكبر بالفعل دون أن نلحظ ذلك ، وقد يزيد بمقدار ملليمتر في الطول ، وهذا الملليمتر شائع في كل ذرات الثواني من النهار ، إن الطفل لا يظل على وزنه وطوله أربعاً وعشرين ساعة من النهار ، ثم يكبر فجأة عند انتهاء اليوم ، لا ، إن نمو الطفل كل يوم يتم بطريقة تشيع فيها قدرة النمو في كل ذرات الثواني من النهار ، وهذه العملية تحتاج إلى الدقة المتناهية في توزيع جزئيات الحدث على جزئيات الزمان ، وهذه هي العظمة للقدرة الخالقة التي يظل الإنسان عاجزاً عنها إلى الأبد . وقد قلت لكم مرة : إن الواحد منكم إن نظر إلى ابنه الوليد ، وظل ناظراً له طوال العمر فلن يلحظ الإنسان منكم كبر ابنه على الإطلاق ، لكن عندما يغيب الإنسان عن ابنه شهراً أو شهوراً ، ثم يعود ، هنا يرى في ابنه مجموع نمو الشهور التي غاب عنه وقد أصبح واضحاً . ولو زرع الإنسان نباتاً ما ، وجلس ينظر إلى هذا النبات ، فهو لن يرى أبداً نمو هذا النبات لماذا ؟ لأن الجزئيات تكبر دون قدرة على أن يلمس الإنسان طريقة نموها . ولنا أن نعرف أن كل ما يكبر إنما يصغر أيضاً ، ولا توجد عند الإنسان قدرة للملاحظة المباشرة لذلك ، وفي الحياة أمثلة أخرى ، نأخذ منها هذا المثل ، فعندما قام العلماء بتصوير الأرض من الأقمار الصناعية ، كانت الصور الأولى لمدينة نيويورك هي صورة لنقطة بسيطة ، وعندما قام العلماء بتكبير هذه الصور ظهرت الجزئيات ، كالشوارع وغيرها ، أين كانت الشوارع في هذه النقطة الصغيرة ؟ لقد صغرت الشوارع أثناء التصوير بصورة تستحيل معها على آلات الإدراك عند الإنسان أن تراها ، وذلك فلا بد من التكبير لهذه الصور حتى يمكن للإنسان أن يراها ، ونحن نرى الشيء البعيد صغيراً ، ولكما قربناه كبر في نظرنا . إذن فقول الله : { تُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلْنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ } [ آل عمران : 27 ] هو لفت للانتباه البشري إلى أن الليل والنهار لا يفصل بينهما حد قاطع بنسبة متساوية لكل منهما ، لا ، إنه الحق بقدرته يدخل الليل في النهار ، ويدخل النهار في الليل . إن معنى " تُولج " هو " تُدخل " ، ومثال ذلك أن يؤذن المؤذن لصلاة المغرب في يوم ما عند الساعة الخامسة ، ويؤذن المؤذن لصلاة المغرب في أيام أخرى في الساعة السابعة . إن ذلك لا يحدث فجأة ، ولا يقفز المغرب من الخامسة إلى السابعة ، إنما يحدث ذلك بانسيابية ، ورتابة . ومن ذلك نتلقى الدرس والمثل . إنك أيها العبد إن رأيت ملكا قائماً على حضارة مؤصلة ، فاعلم أن هناك عوامل دقيقة لا تراها بالعين تنخر في هذا الملك إلى أن يأتي يوم ينتهي فيه هذا الملك . وهكذا تنهار الحضارات بعد أن تبلغ أوج الارتقاءات ، ويصل الناس فيها إلى استعدادات ضخمة وإمكانات هائلة ، وذلك لأن عوامل الانهيار تنخر داخل هذه الحضارات . إن الحق يلفتنا إلى جلال قدرته وعظمة دقة صنعه ، بمثل الليل والنهار : { تُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلْنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ } [ آل عمران : 27 ] . ثم يأتي لنا الحق الأعلى بمثل آخر ، فيقول : { وَتُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ ٱلَمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ } [ آل عمران : 27 ] ، إنها القدرة المطلقة بدون أسباب . والوقفة هنا تجعلنا نرى كيف اهتدينا بما أفاض الله على بعض خلقه من اكتشاف لبعض أسراره في كونه ، لقد وصل العلم لمعرفة أن لكل شيء حياة خاصة ، فنرى أن ورقة النبات تحدث فيها تفاعلات ولها حياة خاصة ، ونرى أن الذرة فيها تفاعلات ولها حياة خاصة ، والتفاعل معناه الحركة ، والحياة كما تعرف مظهرها الحركة ، وغاية ما هناك أنه يوجد فرق في رؤية الحياة عند العامة ، ورؤية الحياة عند الخاصة . إن الإنسان العامى لا يعرف أن النطفة فيها حياة ، وأن الحبة فيها حياة ، ولا يعرف ذلك إلا الخاصة من أهل العلم . إن العامة من الناس لا يعرفون أن الحبة توجد لها حياة مرئية ، ويكمن فيها نمو غير ظاهر ، ولا يعرف العامة أن هناك فرقاً بين شيء حي ، وشيء قابل لأن يحيا . ومثال ذلك نواة البلح التي نأخذها ونزرعها لتخرج منها النخلة ، إنها كنواة تظل مجرد نواة إلى أن يأخذها الإنسان ، ويضعها في بيئتها لتخرج منها النخلة . إذن فالنواة قابلة للحياة ، وعندما ننظر إلى ذرات التراب فإننا لا نستطيع أن نضعها في بيئة لنصنع منها شيئاً ، ورغم ذلك فإن لذرة التراب حركة . ويقول العلماء : إن الحركة الموجودة في ذرات رأس عيدان علبة كبريت واحدة تكفي لإدارة قطار كهربائي بإمكانه أن يلف حول الكرة الأرضية عدداً من السنوات . إن هذه أمور يعرفها الخاصة ، ولا يعرفها العامة . فإن نظرنا إلى العامة عندما يسمعون القول الحق : { وَتُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ ٱلَمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ } [ آل عمران : 27 ] كانوا يقولون : إن المثل على ذلك نواة البلح ، وكانوا يعرفون أن النخلة تنمو من النواة . ولكن الخاصة بحثوا واكتشفوا أن في داخل النواة حياة وعرفوا كيفية النمو . وعرف العلماء أن لكل شيء في الوجود حياة مناسبة لمهمته … فليست الحياة هي الحركة الظاهرة والنمو الواضح أمام العين فقط ، لا ، بل إن هناك حياة في كل شيء . إن العامة يمكنهم أن يجدوا المثال الواضح على أن الحق يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، أما الخاصة فيعرفون قدرة الله عن طريق معرفتهم أن كل شيء فيه حياة ، فالتراب الذي نضع فيه البذر لو أخذنا بعضاً منه في مكان معزول ، فلن يخرج منه شيء ، هذا التراب هو ما يصفه العلماء بوصف " الميت في الدرجة الأولى " وأما النواة التي يمكن أن تأخذها وتضعها في هذا التراب ، فيصفها العلماء بأنها " الميت من الدرجة الثانية " . وعندما ننقل الميت في الدرجة الأولى ليكون وسطاً بيئياً للميت في الدرجة الثانية تظهر لنا نتائج تدلل على حياة كل من التراب والنواة معاً ، وقد مس القرآن ذلك مساً دقيقاً ، لأن القرآن حين يخاطب بأشياء قد تقف فيها العقول فإنه يتناولها التناول الذي تتقبلها به كل العقول ، فعقل الصفوة يتقبلها وعقل العامة يتقبلها أيضاً ، لأن القرآن عندما يلمس أي أمر إنما يلمسه بلفظ جامع راق يتقبله الجميع ، ثم يكتشف العقل البشري تفاصيل جديدة في هذا الأمر . إن القرآن على سبيل المثال لم يقل لنا : إن الذرة فيها حركة وحياة وفيها شحنات من لون معين من الطاقة ، ولكن القرآن تناول الذرة وغيرها من الأشياء بالبيان الإلهي القادر ، وخصوصاً أن هذه الأشياء لم يترتب عليها خلاف في الحكم أو المنهج . فلو عرف الإنسان وقت نزول القرآن أن الذرة بها حياة فماذا الذي يزيد من الأحكام ؟ ولو أن أحداً أثبت أن الذرة ليس بها حياة ، فما الذي ينقص من أحكام المنهج الإيماني ؟ لم يكن الأمر من ناحية الأحكام ليزيد أو لينقص ، وعندما نأخذ القرآن مأخذ الواعين به ، ونفهم معطيات الألفاظ ، فإننا نجد أن كلمة " الحياة " لها ضد هو " الموت " ، وقد ترك الحق سبحانه كلمة " الموت " في بعض المواقع من الكتاب الكريم وأورد لنا كلمة أخرى هي " الهلاك " قال الحق سبحانه : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الأنفال : 42 ] . إن " الهلاك " هنا هو مقابل الحياة ، لماذا لم يورد الحق كلمة " الموت " هنا ؟ لانه الخالق الأعلم بعباده ، يعلم أن العباد قد يختلفون في مسألة " الموت " فبعض منهم يقول تعريفاً للميت : إنه الذي لا توجد به حركة أو حس أو نمو ، ولكن هذا الميت له حياة مناسبة له ، كحياة الذرة أو حياة حبة الرمل ، أو حياة أي شيء ميت ، وهكذا عرفنا من الآية السابقة أن الحياة يقابلها الهلاك . ويقول الحق سبحانه عن الآخرة ليوضح لنا ما الذي سوف يحدث يوم القيامة : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] . لقد استثنى الحق الوجه أو الذات الإلهية ، وكل ما عداها هالك . وما دام كل شيء هالك فمعنى ذلك أن كل شيء كان حياً وإن لم ندرك له حياة . اذن فالحياة الحقيقية توجد في كل شيء بما يناسبه ، مرة تدركها أنت ، ومرة لا تدركها . إذن فقوله الكريم : { وَتُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ ٱلَمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ } [ آل عمران : 27 ] يجوز أن تأخذه مرة بالعرف العام ، أو تأخذه بالعرف الخاص ، أي عرف العلماء ، وما دام ذلك أمراً ظاهراً في الوجود كولوج الليل في النهار وولوج النهار في الليل ، أي أن الحق يدخل النهار في الليل ، ويدخل الليل في النهار . وفي اللغة يسمون بطانة الرجل - أي خاصة أصدقائه - " الوليجة " لماذا ؟ لأنها تتداخل فيه ، لأنك إن أردت أن تعرف سر واحد من البشر فاجلس مع صديق له أو عددٍ من أصدقائه الذين يتداخلون معه . لذلك جاء أمر إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل بالوضوح الكامل ، وجاءت مسألة الحياة والموت بألفاظ يمكن أن يفهمها كل من العامة والخاصة . وإذا كانت تلك الظواهر هي بعض من قدرات الله فمن إذن يستكثر على الله قدرته في أنه يؤتي الملك من يشاء ، ويعز من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويذل من يشاء ؟ لقد جاء الدليل من الآيات الكونية ، ونراه كل يوم رأي العين . { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ … تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ آل عمران : 27 ] . إنك أنت يا الله ، الذي أجريت في كونك كل هذه المسائل وهي كلها أمور من الخير ، وإن بدا للبعض أن الخير فيها غير ظاهر . إن الإنسان عندما يرى في ابنه شيئا يحتاج إلى علاج فإنه يسرع به إلى الطبيب ويرجوه أن يقوم بكل ما يلزم لشفاء الابن ، حتى ولو كان الأمر يتطلب التدخل الجراحي . إن الأب هنا يفعل الخير للابن ، والابن قد يتألم من العلاج ، فإذا كان هذا أمر المخلوق في علاقته بالمخلوق ، فما بالنا بالخالق الأكرم الذي يجري في ملكه ما يشاء ، إيتاء ملك أو نزعه ، وإعزازاً أو إذلالاً ، فكل ذلك لا بد أن يكون من الخير ، وآيات الله تشهد بأن الله على كل شيء قدير لذلك يأتي بعد الآية السابقة قوله : { تُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلْنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَتُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ ٱلَمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 27 ] . فإذا كان هناك إنسان لم يفطن أبداً لمسألة إيلاج الليل في النهار أو إخراج الحي من الميت ، فإنه لا بد أن يلتفت إلى رزقه ، فكل واحد منا يتصل برزقه قهراً عنه ، ولذلك جاء الحق سبحانه بهذا الأمر الواضح : { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 27 ] وساعة تسمع كلمة " حساب " فإنك تعرف أن الحساب هو كما قلنا سابقاً : يبين لك مالك وما عليك . وعندما نتأمل قول الحق : { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 27 ] . فإننا نعلم أن " الحساب " يقتضي " محاسباً " - بكسر السين ويقتضي " محاسباً " - بفتح السين ويقتضي " محاسباً عليه " ، إن الحساب يقتضي تلك العناصر السابقة . فعندما يقول الحق : { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 27 ] فلنا أن نقول : ممن ؟ ولمن ؟ من أين يأتي الرزق ؟ وإلى أين ؟ إنه يأتي من الله ، ويذهب إلى ما يقدره الله لأن الله هو الرزّاق ، وهو الحق وحده ، وهو الذي لا يستطيع ولا يجرؤ أحد على حسابه ، فهو سبحانه الذي يحاسبنا جميعاً ، لا شريك له ، وهو الفعال لما يريد . إن الحساب يجريه الله على الناس ، وهو سبحانه لا يعطي الناس فقط على قدر حركتهم في الوجود ، بل يرزقهم أحياناً بما هو فوق حركتهم . وقد يرزقك الله من شيء لم يكن محسوباً عندك لأن معنى الحساب هو ذلك الأمر التقديري الذي يخطط له الإنسان ، كالفلاح الذي يحسب عندما يزرع الفدان ويتوقع منه نتاجاً يساوي كذا إردباً أو قنطاراً ، أو الصانع الذي يقدر لنفسه دخلاً محدداً من صنعته . هذا هو الحساب ، لكن الإنسان قد يلتفت فيجد أن عطاء الله له من غير حساب . وقد يحسب الإنسان مرة ولا يأتي له الرزق . مثال ذلك : قالوا : إن دولة أعلنت أنها زرعت قمحاً يكفي الدنيا كلها ، ولكن عندما نضج المحصول هبت عاصفة أهلكت الزرع ، وأكلت هذه الدولة قمحها من الخارج . فمن قالوا عن أنفسهم : إنهم سيطعمون الناس أطعمهم الناس . أليس ذلك مصداقاً لقول الحق : " من غير حساب " ؟ إنه الحق سبحانه لا يحسب حركتك إيها الإنسان ليعطيك قدرها ، ولكنه قد يعطيك أحياناً فوق حركتك . ونحن نرى إخوتنا الذين أفاض الله عليهم بثروة البترول ، لقد تفجر البترول من تحت أرجلهم دون جهد منهم إنه الله يريد أن يلفت الناس إلى قدرته جل وعلا ، وأن الأرزاق في يده هو . وننظر إلى الناس الذين يشيرون إلى منطقة البترول فيتهمون أهلها بالكسل ، ونجد ان الحق سبحانه وتعالى قد سخر لهم غير الكسالى ليخدموهم ، وعندما أفاء على المنطقة العربية بالبترول احتاجت لهم الدول التي تقول عن نفسها : إنها متقدمة ، إنه رزق بغير حساب . إن هذه اللفتات إنما تؤكد للمؤمن طلاقة القدرة ، إن الحق قد خلق الأسباب ، ولم يترك الأسباب تتحكم وحدها ، وقد يترك الحق الأسباب للإنسان ليعمل بها ، وقد لا يعطيه منها ، ويعطي الحق الإنسان من جهة أخرى لم يحسب لها حساباً . والإنسان الذي يتأمل تقدير أموره أو أمور من يعرف ، يجد أن تلك القضية منتشرة في كل الخلق ، إنه سبحانه يرزق بغير حساب ، ولا يقول : " لقد فعلت على قدر يساوي كذا " ، والحق سبحانه يعطي بغير حساب من الإنسان لأن الموازنة التي قد يقوم بها الإنسان قد يأتي لها من الأسباب ما يخرقها . إذن { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 27 ] تعني قدرة الحق المطلقة على الرزق بغير حساب ولا توجد سلطة أعلى منه تقول له : لماذا فعلت ؟ أو ماذا أعطيت ؟ أو من غير حساب منه سبحانه لخلقه ، فيأتي الرزق على ما هو فوق أسباب الخلق ، أو من غير حساب للناس المرزوقين فيأتي رزقهم من حيث لم يقدروا ، فإذا كانت كل هذه الأمور لله ، وهو مالك الملك ويعطي من يشاء ، ويعز من يشاء ، ويولج الليل في النهار ، ويرزق من يشاء بغير حساب ، أليس من الحمق أن يذهب إنسان ليوالي من لا سلطان له ويترك هذا السلطان ، إن من يوالي غير الله هو الذي استبد به الغباء . ولنفطن لتلك القضية الإيمانية : أي فما دامت كل الأمور عندي فإياكم أن توالوا خصومى ، لأنني أنا الذي بيده كل شيء ، هاهوذا القول الحق : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } [ آل عمران : 118 ] . إنه الحق يأمرنا ألا نوالي إلا الله ، فإن كنت تجري حساباً لكل شيء وبتقدير مؤمن فلا توال إلا صاحب هذه الأشياء ، وإياك أن تعمد إلى عدو لهذه القوة القاهرة القادرة المستبدة في كل أمور الكون ونواميسه ، إياك أن تعمد الى أعداء الله لتتخذ منهم أولياء لأنك لو فعلت تكون غير صائب التفكير .