Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 95-95)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يأمر الحق رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول : { قُلْ صَدَقَ ٱللَّهُ فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } [ آل عمران : 95 ] . ونعرف أن ملة إبراهيم هي التي سمّت كل المؤمنين بالله المسلمين ، والدعوة إلى الإيمان بملة إبراهيم هي لإيضاح أن جوهر الإيمان لا يحتمل الخلاف ، فَرَكْبُ الإيمان والرسل والأنبياء هو ركب واحد ، وكلمة " اتبعوا " تعني أن هناك مقدماً كما أن هناك تابعاً . و " الملة " تشمل المعتقدات والتشريعات العامة ، كما أن الشريعة تشمل الأحكام ، والدين يكون لبيان العقائد . وقد عرفنا من قبل أن كلمة " حنيفاً " تعني الذي يسير على خط مستقيم ، ويتبع منهجاً قويماً ومستوياً ونحن نسمي ملتنا " الحنيفية السمحاء " ومع ذلك فالحنف هل ميل في الساقين ، اليمين مقوسة إلى اليمين ، واليسار مقوسة إلى اليسار ، فكيف إذن نقول عن الدين الحق الهادي لمنهج الله وشريعته : إنه حنيف ؟ لقد قلنا : إن السماء لا تتدخل بإرسال الرسل إلا حين يعم الفساد ، وما دام الفساد قد عم فإن الذي يميل منحرفاً عن الفساد هو الذي اهتدى إلى الصراط المستقيم ، فالحنيف معناه مائل عن الفساد ، فالمائل عن المعوج معتدل ، { قُلْ صَدَقَ ٱللَّهُ فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِين } [ آل عمران : 95 ] . " صدق الله " نعم لأن الصدق هو أن يطابق القول ما وقع فعلاً ، وحين يتكلم الحق وهو العليم أزلاً فما الذي يحدث ؟ لا بد أن يوافق الواقع ما يقوله سبحانه وتعالى فليس من المعقول أن يتكلم الله كلاماً يأتي على لسان رسول ، أو على لسان أتباع الرسول ، وبعد ذلك يأتي واقع الحياة فينقض قول الحق ويخالفه ، إن الحق العليم أزلاً يُنزل من الكلام ما هو في صالح الدعوة إلى منهجه . إذن فحين يطلق الله قضية من قضايا الإيمان فإنه - سبحانه - عليم أزلاً أنها سوف تحدث على وفق ما قال ، وإن كان الظرف الذي قيلت فيه لا يشجع على استيعابها وفهمها . إن المؤمنين كانوا في أول الأمر مضطهدين ، ومرهقين وإن لم يكن للواحد منهم عشيرة تحميه فإنه يهاجر عن البلاد ، وإن لم يستطع الهجرة فإنه يُعَذب ويُضطهد . وفي هذه الفترة الشديدة القاسية وفي قمة اضطهاد المؤمنين ينزل القول الحق : { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [ القمر : 45 ] . وعندما يسمع سيدنا عمر عليه رضوان الله هذا القول يتساءل : أي جمع هذا ؟ إن الواقع لا يساعد على هذا ، ثم جاءت بدر ، وهزم المؤمنون الجمعَ وولوا الدبر وهذا دليل على أن الله قد أطلق قضية وضمن أنها ستحدث كما قال وكما أخبر ، وهذا مطلق الصدق . إن الإنسان يمكنه أن يستبعد الصدق لو أن الذي قال غير الذي خلق ، لكن الذي قال ذلك هو الذي خلق ويخلق ويعلم ، فمن أين يأتي التناقض ؟ وهذا معنى القول الكريم : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] . إنه قول حق جاء من عند العليم أزلاً ، ومن العجيب أن أهل الكتاب من يهود ونصارى يتمسحون في سيدنا إبراهيم ، فقال بعضهم : إن إبراهيم عليه السلام كان يهودياً ، وبعضهم قال : إن إبراهيم كان نصرانياً . وكان يجب أن يفهموا أن اليهودية والنصرانية إنما جاءتا من بعد إبراهيم ، فكيف يكون يهودياً أو نصرانياً وهذه الملل قد جاءت من بعده ؟ لذلك جاء القرآن الكريم قائلاً : { يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ ٱلتَّورَاةُ وَٱلإنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ آل عمران : 65 ] . وقد أوضح الحق بعد ذلك دين إبراهيم عليه السلام : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ آل عمران : 67 ] . فكيف يمكن أن يختلقوا على إبراهيم أنه كان يهودياً أو نصرانياً ؟ إنه كلام لا يصدر إلا عن قلة فطنة وغفلة بالغة . وعندما يقول الحق عن إبراهيم : " وما كان من المشركين " فهل أهل الكتاب مشركون ؟ نعم لأنهم حين يؤمنون بالبنوة لعزير ، ويؤمنون بالبنوة لعيسى فهذا إشراك بالله ، وأيضاً كان العرب عبدة الأصنام يقولون : إنهم على ملة إبراهيم لأن شعائر الحج جاء بها إبراهيم عليه السلام ، ولهذا ينزه الحق سبحانه سيدنا إبراهيم عن ذلك ، ويقول : { قُلْ صَدَقَ ٱللَّهُ فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ آل عمران : 95 ] وذلك يدل على أن ملة إبراهيم وما جاء به موافق لملة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وإجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام . ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً … } .