Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 30, Ayat: 60-60)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اصبر على كرههم ، واصبر على لَدَدهم وعنادهم ، واصبر على إيذائهم لك ولمن يؤمن بك ، اصبر على هذا كله لأن العاقبة في صالحك { إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ … } [ الروم : 60 ] . وقد وعد الله رسله بالنصرة والغَلَبة ، ووَعْد الله حق ، فتأكد أن النصر آتٍ . لكن ما دام النصر آتياً ، فلماذا هذا الصراع بين المؤمنين والكافرين ؟ ولماذا كل هذه المشقة والعناء في سبيل الدعوة ؟ قالوا : لأن الله تعالى يريد أن يُمحِّص أتباع محمد ، وأن يُدرِّبهم على مسئولية حمل أمانة الدعوة وشعلة النور من بعد رسول الله ، لا إلى أهل الجزيرة العربية وحدها ، إنما إلى الكون كله . فلا بُدَّ أنْ يكونوا من أهل الثبات على المبدأ الذين لا تزعزعهم الشدائد ، والدليل على ذلك أنهم يُؤذَوْن ويُضطهدون فيصبرون ، وهذه أهم صفة فيمن يُعدُّ لتحمُّل الأمانة . لذلك نقول : إذا رأيتَ منهجاً أو مبدأ يغدق على أصحابه أولاً ، فاعلم أنه مبدأ باطل لأن المبدأ الحق يضحي أهله من أجله بأنفسهم وبأموالهم ، يعطونه قبل أنْ يأخذوا منه ، لماذا ؟ لأن صاحب المبدأ الباطل لن يجد مَنْ يناصره على باطله إلا إذا أغراهم بالمال أولاً واشترى ذممهم ، وإلا فماذا يلجئه إلى مبدأ باطل ، ويحمله على اتباعه ؟ إذن : لا بد أن يقبض الثمن أولاً . أما المبدأ الحق فيعلم صاحبه أن الثمن مُؤجَّل للآخرة ، فهو ممنَّى بأشياء فوق هذه الدنيا يؤمن بها ويعمل من أجلها ، فتهون عليه نفسه ، ويهون عليه ماله في سبيل هذا المبدأ . وفي رحلة الدعوة ، رأينا الكثيرين يتساقطون بالردة عندما تَحْدثُ لرسول الله آية أو هزة تهزُّ الناس ، وكأن الشدة غربال يميز هؤلاء وهؤلاء ، حتى لا يبقى تحت راية لا إله إلا الله إلا الصناديد الأقوياء القادرون على حمل هذا اللواء إلى العالم كله . فالله يقول لنبيه : اصبر على تكذيبهم وعلى إنكارهم وعلى ائتمارهم عليك ، فنحن مُؤيدوك ، ولن نتخلى عنك ، وقد وضح لك هذا التأييد حين جاهروك فانتصرت على جهرهم وبيَّتوا لك في الخفاء فانتصرتَ على تبييتهم ، واستعانوا حتى بالجن ليفسدوا عليك أمرك ، ففضح الله تدبيرهم ونجاك منهم . إذن : فاطمئن ، فنحن لهم بالمرصاد ، ولن نُسْلِمك أبداً ، بل وسوف نريك فيهم ما يستحقون من العقاب في الدنيا ، وتراه بعينك ، أو في الآخرة بعد موتك : { فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [ غافر : 77 ] . ومن هذا العقاب الذي نزل بهم في الدنيا ورآه سيدنا رسول الله ما حاق بهم يوم بدر من قَتْل وأسْر وتشريد ، وقلنا : إن عمر رضي الله عنه وما أدراك ما عمر ، فقد كان القرآن ينزل على وَفْق رأيه ، ومع ذلك لما نزلت : { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [ القمر : 45 ] تعجب وقال : أيُّ جمع هذا الذي سيُهزم ، ونحن عاجزون حتى عن حماية أنفسنا ، فلما كانت بدر ، ورأى ما رأى قال : صدق الله { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [ القمر : 45 ] . وقوله تعالى : { إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ … } [ الروم : 60 ] الوعد : هو البشارة بخير لم يأت زمنه الآن ، وفَرْق بين الوعد بالخير من إنسان ، والوعد من الله تعالى ، فوَعْدكَ قد يختلف لأنك ابن أغيار ، ولا تملك كل عناصر الوفاء بالوعد ، وربما جاء وقت الوفاء فلم تقدر عليه أو تتغير نفسك من ناحيته فتبخل عليه ، أو تراه لا يستحق … إلخ . إذن : الأغيار التي تنتابك أو تنتابه أو تنتاب قيمة ما تؤديه من الخير موجودة ، وقد تحول بينك وبين الوفاء بما وعدتَ . لذلك يعلمنا الحق سبحانه أنْ نحتاط لهذا الأمر ، فيقول سبحانه : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ … } [ الكهف : 23 - 24 ] فاربط فِعْلك بمشيئة الله التي تُيسِّر لك الفعل ، ولا ينبغي أنْ تجزم بشيء أنتَ لا تملك شيئاً من أسبابه . قلنا : هَبْ أنك قلتَ : سألقاك غداً في المكان الفلاني ، وسأعطيك كذا وكذا ، فأنت قلتَ هذه المقولة ووعدتَ هذا الوعد وأنت لا تضمن أن تعيش لغد ، ولا تضمن أنْ يعيش صاحبك ، وإنْ عِشْتُما لغد فقد يتغير رأيك ، أو يصيبك شيء يعوقك عن الوفاء ، إذَن : فقولك إنْ شاء الله يحميك أنْ تُوصف بالكذب في حالة عدم الوفاء لأنك وعدتَ ولم يشأ الله ، فلا دخلَ لك في الأمر . فالوعد الحق يأتي ممَّنْ ؟ مِنَ الذي يملك كُلَّ أسباب الوفاء ، ولا يمنعه عنه مانع . وقوله تعالى : { وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ } [ الروم : 60 ] خف الشيء : لم يَعُدْ له ثِقَل ، واستخفّ غيره : طلب منه أنْ يكون خفيفاً ، فمثلاً حين تقسو على شخص يأتي آخر فيقول لك : خف عنه . واستخفّه مثل استفزّه يعني : حرّكه وذبذبه من ثباته ، فإنْ كان قاعداً مثلاً هَبَّ واقفاً . لذلك نقول في مثل هذه المواقف خليك ثقيل … فلان بيستفزك يعني : يريد أنْ يُخرجك عن حلمك وثباتك … متبقاش خفيف … إلخ ونقول للولد فِز يعني قِفْ انهض ، ومنه قوله تعالى { وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ … } [ الإسراء : 64 ] . إذن : فالمعنى استخفه : حمله على الخفة وأن يتحول عن الثبات الذي هو عليه . فالمعنى : إياك يا محمد أنْ يستفزّك القوم ، أو يُخرجوك عن ثباتك ، فتتصادم معهم ، لكن ظلّ على ثباتك في دعوتك ولا تقلق لأن الله وعدك بالنصرة ووَعْد الله حَقٌّ . والحق سبحانه ساعة يُرخِي العنان لمن كفر به إنما يريد أنْ يُخرِج كل ما عندهم حتى لا يبقى لهم عذر ، ثم يقابلهم ببعض ما عنده مما يستحقون في الدنيا ، والباقي سيرونه في الآخرة . والله يقول : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [ الصافات : 171 - 173 ] . ومن سيرة الإمام علي - رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه - علمنا أنه ابتُلِي بجماعتين : الخوارج الذين يُكفِّرونه ، والشيعة الذين يُؤلهونه ويصلون به إلى درجة النبوة ، حتى صدق فيه قول رسول الله : " هلك فيك اثنان : مُحب غالٍ ، ومبغض قَالٍ " . ويروى أنه - رضي الله عنه - كان يصلي يوماً الفجر بالناس ، فلما قرأ : ولا الضالين اقترب منه أحد الخوارج وقرأ : { وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [ الزمر : 65 ] يريد أن يقول له : أنت كافر ولن يقبل منك عملك . وسرعان ما فطن علي لما أراده الرجل ، فقرأ بعدها مباشرة : { فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ } [ الروم : 60 ] يعني : لن تُخرِجني عن ثباتي وحِلْمي ولن تستفزني . والعظمة في هذا الموقف أنْ يرد عليه لِتوِّه بالقول الشافي من كتاب الله دون سابق إعداد أو ترتيب ، ولِمَ لا ، وهو علي بن أبي طالب الذي أُوتِي باعاً طويلاً في البلاغة والفصاحة والحجة . ومعنى : { ٱلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ } [ الروم : 60 ] من اليقين ، وهو الإيمان الثابت الذي لا يتزعزع ، فيصير عقيدة في القلب لا تطفو إلى العقل لتناقش من جديد .