Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 31, Ayat: 28-28)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الحق سبحانه وتعالى يؤكد دائماً على قضية البعث والقيامة ، ويريد سبحانه أنْ ينصب للناس في حركة حياتهم موازين الجزاء لأن كل عمل لا توجد فيه موازين للجزاء يعتبر عملاً باطلاً ، ولا يمكن أنْ يستغني عن الجزاء ثواباً وعقاباً إلا مَنْ كان معصوماً او مُسخَّراً ، فالمعصوم قائم دائماً على فِعْل الخير ، والمسخّر لا خيارَ له في أنْ يفعل أو لا يفعل . إذن : إذا لم يتوفر مبدأ الجزاء ثواباً وعقاباً في غير هذين لا بُدَّ أنْ يوجد فساد ، إذا لم يُثب المختار على الفعل ، ويعاقب على الترك اضطربت حركة الحياة ، حتى في المجتمعات التي لا تؤمن بإله وضعت لنفسها هذا القانون ، قانون الثواب والعقاب . والحق - سبحانه وتعالى - يعطينا مثالاً لهذا المبدأ في قوله تعالى من قصة ذي القرنين : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي ٱلأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً } [ الكهف : 84 - 85 ] . أراد الحق سبحانه أن يبين أن الرجل الممكّن في الأرض له مهمة ، هذه المهمة هي شكر الله على التمكين ولا يكون إلا بإقامة ميزان العدالة في الكون { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ٱلشَّمْسِ … } [ الكهف : 86 ] أي : في رأي العين ، وإلا فهي لا تغرب أبداً ، إنما تغرب عن جماعة في مكان ، وتشرق على جماعة في مكان آخر . { وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } [ الكهف : 86 ] . ولا يُفوَّض إنسان في أنْ يُعذِّب أو يتخذ الحسنى إلا إذا كانت لديه مقاييس وميزان العدالة ، وقد قال الله عنه : { وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } [ الكهف : 84 ] أي : نعمة وميزاناً لتوزيع هذه النعمة ، فلم تقتصر نعمة الله عليه في أنه صاحب سلطان وجبروت ، إنما عنده المقوِّمات الحياتية ، وعنده ميزان العدالة الذي يضبط استطراق النِّعَم في الكون كله . فالذي خُيِّر في أنْ يفعل أو لا يفعل أراد أنْ يبين منهجه في أنه لم يأخذ الاختيار وسيلة لتثبيت الأهواء لذلك قال بعدها : { قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً } [ الكهف : 87 ] هذا هو العقاب { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً ٱلْحُسْنَىٰ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } [ الكهف : 88 ] أي : بعد أنْ ينال ثوابه ، نعطيه فوق ذلك حوافز تشجعه ، ونقيم له حفلة تكريم لنغري غيره بأن يسلك مسلكه . إذن : فقضية الثواب والعقاب أمر لازم ، وإذا كان هذا في الأمور الحياتية الجزئية ، فهو أَوْلى في أمور الدين والقيم التي تسيطر على كل موازين الحياة ، لا بُدَّ من وقت للثواب وللعقاب ، وإلا استشرى الظلم واغتال الناس ، وقضى عليهم وأخذ منهم كل مُتع الحياة ، فانتفع بذلك المفسد ، وخاب كل مَن التزم بدين الله وقيم منهجه . لذلك تجد الحق - تبارك وتعالى - يؤكد دائماًَ على مسألة البعث والقيامة والحساب ، وترى أعداء الدين يحاولون أنْ يُشككوا في هذه القضية ، وأنْ يُزحزحوا الناس عن الإيمان بها بطرق شتى . فالفلاسفة لهم في ذلك دور ، وللملاحدة دور ، ولأهل الكتاب دور لذلك تجد التوراة مثلاً تكاد تخلو من إشارة عن اليوم الآخر ، وهذا أمر غريب لا يمكن تصوره في كتاب ودين سماوي ومنهج حياة . وما ذلك إلا لأن أهل التوراة أرادوا أنْ يُزحزحوا الناس عن أمور عدة ليثبتوا لأنفسهم سلطة زمنية مادية ، حتى إنهم طمعوا في أنْ يرتقوا بهذه السلطة حتى يصلوا إلى الله تعالى ، كما حكى القرآن عنهم : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً … } [ البقرة : 55 ] . ولما أنزل الله عليهم المنَّ ، وهو مادة حُلْوة كطعم القشدة جعلها تتساقط عليهم ، وأنزل عليهم السلوى ، وهي طيور مثل السمان تنزل عليهم جاهزة مُعدَّة للتناول رفضوا عطية الله لهم ، وطعامه الذي أُعدَّ من أجلهم ، وقالوا : بل نريد طعاماً نصنعه بأيدينا ، وقالوا : { لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ … } [ البقرة : 61 ] ، فقال لهم : { ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ … } [ البقرة : 61 ] . وما دام الأمر بالنسبة لهؤلاء مادياً فلا بُدَّ أنْ يزحزح نفسه عن الآخرة وعن القيامة والحساب ، لذلك راحوا يُشكِّكون فيها ، أما الفلاسفة فقالوا : حين يبعث الله إنساناً بعد الموت وقد تحللتْ أعضاؤه وصارت تراباً ، ثم غرست في هذا المكان شجرة فتغذتْ من هذا التراب ، وأكل إنسان آخر من ثمارها وانتقلتْ إليه بعض خلايا وجزئيات الأول ، فإذا كان هناك بعث أتُبعت هذه الجزئيات مع الأول أم مع الآخر ؟ فإنْ كانت مع الأول فهي نقص في الآخر والعكس . هذه هي شبهة الفلاسفة . وقد تخبَّط الفلاسفة هذا التخبُّط لأنهم لم يفطنوا إلى شيء في الوجود يعطي قيماً للغيبيات ، وقد أوضحنا هذه المسألة فقلنا لهم : لو أن إنساناً يزن مائة كيلو مثلاً أصيب بمرض أفقده أربعين كيلو من وزنه ، فماذا يعني هذا النقص بالنسبة للشخص نفسه ؟ هذه المسألة يتحكم فيها أمران : الغذاء والإخراج ، ففي فترة النمو يكون الداخل للجسم أكثر من الخارج ، أما في فترة الشيخوخة مثلاً فالخارج أكثر ، فإنْ توازن الأمران كانت حالة من الثبات لا يزيد فيها الشخص ولا ينقص ، وهي فترة الثبات . فالشخص الذي نقص من وزنه أربعون كيلو ، ثم شفاه الله وعادت إليه عافيته حتى زاد وزنه وعاد إلى حالته الطبيعية ، فهل تغيَّر الشخص حال نقصان وزنه ؟ وهل تغيَّر حال عودته إلى طبيعته ؟ أم ظلت الشخصية والذاتية هي هي ؟ إذن : المسألة في تكوين الجسم ليست ذرات وجزيئات ، إنما هي شخصية معنوية خاصة وإنْ تكوَّنت من جزيئات المادة وهي الستة عشر عنصراً التي تكوِّن جسم الإنسان ، والتي تبدأ بالأكسوجين وتنتهي بالمنجنيز ، وهي نفس العناصر المكوِّنة لتربة الأرض التي نأكل منها ، وهذه العناصر بنسب تختلف من شخص لآخر . والحق سبحانه وتعالى يقول : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [ ق : 4 ] يعني : نعرف ما نقص من كل إنسان : كذا في الحديد ، وكذا من الأكسوجين ، وكذا من الفسفور … إلخ . إذن : حين يبعث الله الإنسان بعد الموت يبعث هذه الشخصية المعنوية بهذه الأجزاء المعروفة ، فيأتي الشخص هو هو . ومن القضايا التي أثاروها في مسألة البعث ولالتباسات التي يحاولونها يقولون : الله تعالى يخلق الإنسان في مدة تسعة أشهر ، أو ستة أشهر ، يمر خلالها بعدة مراحل : نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظاماً ، ثم يكسو هذه العظام لحماً ، هذا للإنسان الواحد ، فكم تستغرق إعادة خَلْق البشر من لَدُن آدم عليه السلام حتى قيام الساعة ؟ ونقول : لقد ذكرتم كيفية خَلْق سلالة الإنسان والتي تستغرق تسعة أو ستة أشهر ، لكن لم تذكروا خَلْق الأصل ، وهو آدم عليه السلام ، وقد خلقه الله على هيئته وصورته التي كان عليها ، فلم يكُنْ صغيراً وكبر ، إنما خُلِق كبيراً مستوياً كاملاً ، ثم نُفِخت فيه الروح . ثم إن عناصر الفعل هي : الفعل ، والفاعل ، والمنفعل ، يُضاف إليها الزمن الذي سيتم فيه الفعل ، فأنا أريد أنْ أنقل هذه الحملة من هنا إلى هناك فنقلنا فعل ، وأنا الفاعل ، والحملة هي المنفعل ثم الزمن الذي يستغرقه الحدث ، والزمن يعني توزيع جزئيات الحدث على جزئيات الزمن فإذا أردت أن تخيط ثوبا بطريقة يدوية فإنه يأخذ منك وقتاً طويلاً ، فإن خِطَّه بالماكينة أخذ وقتاً أقلّ بكثير . إذن : فزمن الفعل يتناسب مع قوة الفاعل ، وتذكرون أنه في الماضي كانت الشوارع تضاء بمصابيح الزيت ، وكان لكل منطقة عامل يصعد إلى سلم إلى كل فانوس ليشعله ، أما الآن فتستطيع أن تنير مدينة بأكملها بضغطة زر واحد . إذن : كلما زادتْ القوة قلَّ الزمن . فتعال إذن إلى مسألة البعث والإعادة بعد الموت : أهي بقوتك أنت لتحسبها بما يناسب قوتك وقدرتك ؟ إنها بقوة الله عز وجل ، والله لا يعالج الأمور كما نفعل ولا يزاولها ، إنما يفعل سبحانه بكُنْ . إذن : فالفعل بالنسبة لله تعالى لا يحتاج إلى زمن تُوزَّع فيه جزئيات الفعل على جزئيات الزمن . ولمَ تستبعد هذا في حقَّ الله تعالى ، وقد أعطاك ربك طرفاً منه رغم قدرتك المحدودة ؟ ألستَ تجلس في مثل هذا المجلس فترانا جميعاً مرة واحدة في نظرة واحدة ، كذلك تسمع الجميع دفعة واحدة ؟ ألستَ تقوم بمجرد أن تريد أنْ تقوم ، وتنفعل جوارحك لك بمجرد أنْ يخطر الفعل على بالك ؟ أتفكر أنت في العضلات التي تحركتْ والإشارات التي تمتْ بداخلك لتقوم من مجلسك ؟ وقد سبق أنْ أوضحنا هذه المسألة حين قارنَّا حركة الإنسان في سلاستها وطواعية الجوارح لمراد صاحبها بحركة الحفار مثلاً ، فهو لا يؤدي حركة إلا بالضغط على زر خاص بها . فإذا كنت أنت أيها العبد تنفعل لك جوارحك وأعضاؤك بمرادك في الأشياء ، فهل تستبعد في حق الله أنْ يفعل بكلمة كُنْ ؟ كيف وأنت ذاتك تفعل بدون أنْ تقولها ؟ مجرد الإرادة منك تفعل ما تريد . فإنْ قلتَ : كيف يفعل الحق سبحانه بكلمة كُنْ ، وأنا أفعل بدون أنْ أقولها ؟ نقول : نعم أنت تفعل بدون كُنْ لأن الأشياء ليست منفعلة لك أنت ، إنما هي مُسخَّرة بكُنْ الأولى حين قال الله لها كوني مُسخَّرة لإرادته ، إذن : أنا أفعل بدون كُنْ لأنها ليست في مقدوري أنا ، فكأن كُنْ الأولى من الله تعالى هي كُنْ لنا جميعاً . وبهذا الفهم استطعنا تفسير حادثة الإسراء والمعراج ، واستطعنا الرد على منكريها ، فالله يقول : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى … } [ الإسراء : 1 ] . فلما سمع الكفار بالحادثة أنكروها وقالوا : كيف ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً ؟ نعم أنتم تضربون إليها أكباد الإبل شهراً لأن فعلكم يحتاج إلى زمن ومزاولة نوزع فيها جزئيات الفعل على جزئيات الزمن ، أمَّا محمد فلم يقُلْ سريتُ ، فيكون في الفعل كأحدكم إنما قال : أُسرِي بي . إذن : فهو محمول على قدرة أخرى ، فالفعل لا يُنسب إليه إنما إلى حامله إلى الله ، وقلنا : كلما زادتْ القوة قلَّ الزمن ، فإذا كانت القوة قوة الحق - تبارك وتعالى - فلا زمن لذلك يقول سبحانه في مسألة الخلق والإعادة : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ … } [ لقمان : 28 ] . فالأمر يسير على الله لأن خَلْق النفس الواحدة وخَلْق جميع الأنفس يتم بكُنْ ، فالمسألة لا تحتاج إلى تسعة أو ستة أشهر . وضربنا مثلاً لتوضيح هذه المسألة بصناعة الزبادي مثلاً ، فأنت تأتي باللبن وتضع عليه المادة المعروفة وتتركه في درجة حرارة معينة فيتحول تلقائياً إلى الزبادي الذي تريده ، فهل جلستَ أمام كل علبة تُحوِّلها بنفسك ، أم أنك عملت العملية المعروفة في هذه الصناعة ، ثم تركت هذه المواد تتفاعل بذاتها ؟ كذلك شاء الله تعالى أنْ يوجد الإنسان جنيناً في بطن أمه ، وأن تجري عليه أمور النمو بطبيعتها ، إذن : خَلْق الإنسان لا يقاس بالنسبة لله تعالى بالزمن ، وقد حَلَّ لنا الإمام علي كرم الله وجهه هذه القضية حينما سُئِل : كيف يحاسب الله الناس جميعاً من لَدُن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة في وقت واحد ؟ فقال : يحاسبهم جميعاً في وقت واحد ، كما أنه يرزقهم جميعاً في وقت واحد لأنه سبحانه لا يشغله شأن عن شأن . ثم يذيل الحق سبحانه هذه الآية بقوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [ لقمان : 28 ] سميع وبصير صيغة مبالغة من السمع والبصر ، وقلنا : إنك وأنت العبد المخلوق تستطيع أن ترى هذا الجمع مرة واحدة في نظرة واحدة ، وكذلك تسمعه ، فما بالك بسَمْع الله تعالى وبصره ؟ ثم يقول الحق سبحانه : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ … } .