Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 31, Ayat: 30-30)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { ذَلِكَ … } [ لقمان : 30 ] إشارة إلى ما تقدم ذِكْره من دخول الليل في النهار ، ودخول النهار في الليل ، وتسخير الشمس والقمر ، ذلك كله { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ … } [ لقمان : 30 ] فكل ما تقدم نشأ عن صفة من صفات الله وهو الحق ، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير ، فكأن ناموس الكون بكل أفلاكه وبكل المخلوقات فيه له نظام ثابت لا يتغير لأن الذي خلقه وأبدعه حق { بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ … } [ لقمان : 30 ] . وما دام الله تعالى هو الحق فما يدَّعونه من الشركاء هم الباطل { وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلْبَاطِلُ … } [ لقمان : 30 ] ، فلا يوجد في الشيء الواحد حَقَّان ، فإنْ كان أحدهما هو الحق فغيره هو الباطل ، فالحق واحد ومقابله الباطل . وأيُّ باطل أفظع من عبادتهم للأصنام واتخاذها آلهة وشركاء مع الله عز وجل ؟ كيف وهي حجارة صوَّروها بأيديهم وأقاموها ليعبدوها من دون الله ، والحجارة جماد من جمادات الأرض ، والجماد هو العبد الأول لكل المخلوقات ، عبد للنبات ، وعبد للحيوان ، وعبد للإنسان لأنه مُسخّر لخدمة هؤلاء جميعاً . فكيف بك وأنت الإنسان الذي كرَّمك ربك وجعل لك عقلاً مفكراً تتدنى بنفسك وترضى لها أنْ تعبد أدنى أجناس الوجود ، وتتخذها شريكاً مع الله ، وأنت ترى الريح إذا اشتدتْ أطاحتْ باللات أو بالعزى ، وألقتْه على الأرض ، وربما كُسرت ذراعه ، فاحتاج لمن يصلح هذا الإله ، إذن { وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلْبَاطِلُ … } [ لقمان : 30 ] . لذلك قلنا في الحروب التي تنشب بين الناس : إنها لا تنشب بين حقين لأن الحقيقة لا يوجد فيها حقَّان ، إنما هو حق واحد ، والآخر لا بُدَّ أن يكون باطلاً ، أو تنشأ بين باطلين ، أما نشأتها بين حق وباطل فإنها في الغالب لا تطول لأن الباطل زهوق . والعاقبة لا بُدَّ أنْ تكون للحق ولو بعد حين ، أما الباطل فإنه زَهُوق ، إنما تطول المعركة إنْ نشبت بين باطلين ، فليس أحد الطرفين فيها أهلاً لنصرة الله ، فتظل الحروب بينهما حتى يتهالكا ، وتنتهي مكاسب طغيان كل منهما ، ولا يردهما إلا مذلَّة اللجوء إلى التصالح بعد أنْ فقدا كل شيء . لذلك نرى هذه الظاهرة أيضاً في توزيع التركات والمواريث بين المستحقين لها ، حيث ينشب بينهم الخلاف والطعن واللجوء إلى القضاء والمحامين حتى يستنفد هذا كله جزءاً كبيراً من هذه التركة ، حتى إذا ما صَفَتْ مما كان بها من أموال جُمعتْ بالباطل ترى الأطراف يميلون إلى الاتفاق والتصالح وتقسيم ما بقي . واقرأ إنْ شئت حديث رسول الله صلى الله عليهم وسلم : " مَنْ أصاب مالاً من مهاوش أذهبه الله في نهابر " ومعنى : مهاوش يعني التهويش أو كما نقول بيهبش من هنا ومن هنا ، وطبيعي أن يُذهِب الله هذا المال في الباطل وما لا فائدة منه . وسبق أن أعطينا مثلاً لمصارف المال الحرام بالأب يرجع إلى بيته ، فيجد ابنه مريضاً حرارته مرتفعة ، فيسرع به إلى الطبيب ويصيبه الرعب ، ويتراءى له شبح المرض ، فينفق على ابنه المئات ، أما الذي يعيش على الكفاف ويعرق في كسب عيشه بالحلال فيكفيه في مثل هذه الحالة قرص أسبرين وكوب ليمون ، فالأول أصاب ماله من مهاوش ، والآخر أصابه من الحلال . فقول الله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ … } [ لقمان : 30 ] يعني : أن الحق هو الظاهر وهو الغالب ، فإنْ قلتَ كيف ونحن نرى الباطل قد يعلو على الحق ويظهر عليه ؟ ونقول : نعم ، قد يعلو الباطل لكن إلى حين ، وهو في هذه الحالة يكون جندياً من جنود الحق ، كيف ؟ حينما يعلو الباطل وتكون له صَوْلَة لا بُدَّ أن يعض الناس ويؤذيهم ويذيقهم ويلاته ، فيلتفتون إلى الحق ويبحثون عنه ويتشوقون إليه . إذن : لولا الباطل ما عرفنا ميزة الحق ، ومثال ذلك الألم الذي يصيب النفس الإنسانية فينبهها إلى المرض ، ويظهر لها علتها ، فتطلب الدواء ، فالألم جندي من جنود الشفاء ، وقلنا سابقاً : إن الكفر جندي من جنود الإيمان . لذلك لا تحزن إنْ رأيتَ الباطل عالياً ، فذلك في صالح الحق ، واقرأ قول ربك عز وجل : { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا … } [ الرعد : 17 ] يعني : يأخذ كل وادٍ على قدره وسِعَته من الماء { فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً … } [ الرعد : 17 ] وهو القش والفتات الذي يحمله الماء { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ … } [ الرعد : 17 ] أي : مثلاً لكل منهما . { فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً … } [ الرعد : 17 ] يعني : مطروداً مُبْعداً من الجفوة { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ } [ الرعد : 17 ] . وبعد أن بيَّن الحق سبحانه وتعالى أنه { ٱلْحَقُّ … } [ لقمان : 30 ] وأن غيره من آلهة المشركين هم الباطل ذكر لنفسه سبحانه صفتين أخريين { وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْكَبِيرُ } [ لقمان : 30 ] العلي الكبير يقولها الله تعالى ، ويقولها رسوله صلى الله عليه وسلم ، ونقولها نحن لأن الله قالها ولأن النبي الصادق أخبرنا بها ، لكن المسألة أن يشهد بها مَنْ كفر بالله . لذلك يعلمنا ربنا - تبارك وتعالى - أن نحمد الله حينما يشهد الكافر لله رغم كفره به ، كما ورد في الآيات السابقة : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ لقمان : 25 ] . فهذه الشهادة منهم تستحق من المؤمن أن يقول : الحمد لله لأنها شهادة جاءت ممَّنْ كفر بالله وكذَّب رسوله وحاربه ، وأيضاً تنظر إلى هذا الكافر الذي تأبَّى على منهج الله وكذَّب رسوله حين يصيبه مرض مثلاً ، أيستطيع أنْ يتأبى على المرض كما تأبَّى على الله ؟ هذا الذي أَلِف التمرد على الله : أيتمرد إنْ جاءه الموت . واقرأ قوله تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ … } [ الإسراء : 76 ] أي : لا يجدون أمامهم ساعة الكرب والهلاك إلا الله لأن الإنسان في هذه الحالة لا يخدع نفسه ولا يكذب عليها ، بالله أرأيتم إنساناً أحاطتْ به الأمواج ، وأشرف على الهلاك يدعو يقول : يا هبل ؟ إذن : الله هو العلي وهو الكبير ، وغيره شرك وباطل . وسبق أن ضربنا مثلاً للإنسان ، وأنه لا يغشُّ نفسه ، ولا يخدعها خاصة إذا نزلتْ به ضائقة بالحلاق أو حكيم الصحة كما كانوا يطلقون عليه ، فهو يداوي أهل القرية ويسخر من طبيب الوحدة الصحية ، ويتهمه بعدم الخبره لكن حين مرض ولده وأحسَّ بالخطر أخذ الولد وتسلَّل به في ظلام الليل ، وذهب إلى الطبيب . فلله وحده العلو ، ولله وحده الكبرياء ، بدليل أن الكافر حين تضطره أمور الحياة وتُلجئه إلى ضرورة لا مخرجَ منها لا يقول إلا : يالله يا رب . فالله هو العليُّ بشهادة مَنْ كفر به ، ثم أردف صفة العلي بصفة الكبير لأن العلي يجوز أنه علا بطغيان وعدم استحقاق للعلو ، لكن الحق سبحانه هو العلي ، وهو الكبير الذي يستحق هذا العلو . ثم يلفتنا الحق سبحانه إلى آية أخرى من آياته في الكون : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱلْفُلْكَ … } .