Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 35, Ayat: 12-12)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الحق سبحانه وتعالى يريد أنْ يُقرِّب لنا القضية العقلية القيمية فيعرضها لنا في صورة حسية مُشاهدة { وَمَا يَسْتَوِي ٱلْبَحْرَانِ } [ فاطر : 12 ] وكأن الله يقول لنا : كما أن هناك أشياء حسية لا تستوي في الحسِّ ، كذلك في القيم أشياء لا تستوي . معنى { ٱلْبَحْرَانِ } [ فاطر : 12 ] البحر معروف ، وهو المتسع الذي يحوي الماء المالح ، وسُمِّي النهر أيضاً بَحْراً على سبيل التغليب ، والنهر يحوي الماء العذب ، فهما مختلفان لا يستويان { هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ } [ فاطر : 12 ] { وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } [ فاطر : 12 ] إذن : هما وعاء لشيء واحد هو الماء ، فهما وإنِ اشتركا في الشيء الواحد وهو الماء فهما مختلفان في النوع : هذا عذب ، وهذا مالح ، العَذْب وُصِف بأنه { عَذْبٌ فُرَاتٌ } [ فاطر : 12 ] أي : شديد العذوبة { سَآئِغٌ شَرَابُهُ } [ فاطر : 12 ] سهل المرور في الحَلْق هنيئاً ، ووصف المالح بأنه { مِلْحٌ أُجَاجٌ } [ فاطر : 12 ] شديد الملوحة . وبين العَذْب والمالح عجائب في التكوين ، ففيهما مثلاً تعيش الأسماك ونأكلها ، فلا نفرق بين سمك الماء المالح وسمك الماء العَذْب لأن الله أعدَّ الكائن الحي ليأخذ من الماء مقوِّمات حياته ، وينفي ما لا يريد ، مثل الشجرة تزرعها ، فتأخذ من الأرض العناصر اللازمة لها وتطرد ما لا تحتاج إليه . ففي التربة الواحدة تزرع مثلاً شجرة شطة وعود القصب ، فتتغذى الشجرتان بنفس العناصر ، وتُسْقى بنفس الماء ، لكن يخرج الطَّعْم مختلفاً تماماً ، كما قال سبحانه : { وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ } [ الرعد : 4 ] . وهذه فطرة وغريزة جعلها الله في كل الكائنات الحية ، أن تأخذ من الغذاء ما تحتاج إليه فقط ، ولما أراد العلماء أنْ يُقرِّبوا لنا عملية التغذية في النبات قالوا : إنها تعتمد على خاصية الأنابيب الشعيرية ، فالشعيرات الجذرية تمتصُّ الماء والغذاء من التربة وتُوصِّله بهذه الخاصية إلى الساق والأوراق ، لكن فاتَهُم أن الأنابيب الشعيرية تمتص الماء دون تفرقة ودون تمييز لعنصر دون عنصر ، ودون انتخاب لمادة دون أخرى . إذن : ليست هي الخاصية الشعيرية ، إنما هي الغريزة والفطرة الإلهية التي أودعها الله في الكائن الحي . والإنسان تطرأ عليه مسائل غريزية ، ومسائل عاطفية ، ومسائل عقلية : فالمسائل العاطفية مثل الحب أو البغض لا دخْلَ للتشريع فيها لأن الإنسان لا يملك التحكم فيها ، فأحبِبْ مَنْ شئتَ ، واكره مَنْ شئتَ ، لكن شريطة ألاَّ يُخرِجك الحب أو الكُرْه عن حَدِّ الاعتدال إلى الظلم والتعدي ، كما قال سبحانه : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ … } [ المائدة : 8 ] . كذلك المسائل الغريزية لا يتدخَّل فيها الشرع ، فالجوع والعطش مثلاً غرائز يعرفها المرء بنفسه وبالتجربة ، فأنت لا تُعلِّم ولدك الجوع أو العطش ، بل هو يعرفه بنفسه حين يجوع وحين يعطش . لذلك عجيب الآن أنْ تسمع مَنْ ينادي بتعليم الأولاد والبنات في المدارس الأمور الجنسية ، ويريدون مادة جديدة تسمى التربية الجنسية يتعلَّمها الأطفال منذ الصِّغَر ، ونقول : سبحان الله متى يُسمح للصغار بتعلُّم الغرائز ، الغرائز لا تُعلم ، بل يعرفها الإنسان في وقتها المناسب . ومن عجائب الخَلْق أن الماء العَذْب لا يختلط بالماء المالح ، كما قال سبحانه { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } [ الرحمن : 20 ] وهذا دليل إعجاز ، فالماء المالح في البحار والمحيطات الكبيرة دائماً ما نجد منسوب المياه فيها أقلَّ من منسوب مياه الأنهار ، ولو كان العكس لَطَغى الماء المالح على الأنهار وعلى اليابسة . ومعنى ذلك أنْ تموت المزروعات وتفسد التربة لذلك شاءتْ حكمة الخالق سبحانه أن يكون منسوب الأنهار أعلى ، وأن يكون لها مَصبَّات تنتهي إلى البحار لتفرغ فيها الماء الزائد عن الحاجة . وللخالق سبحانه حكمة في الماء العَذْب ليكون صالحاً للشرب ولسَقْي الزرع ويروي العطش ، أما المالح فالله يحفظه بنسبة الملوحة فيه حتى لا يفسد ويعطن لأن البحار والمحيطات هي مخازن الماء العَذْب ، فمنها يتبخر ماء المطر الذي تجري به الأنهار ، وتلحظ أن درجة الملوحة تختلف حسب طبيعة المكان ، فمثلاً تجد الماء في بحر البلطيق أقلَّ ملوحة ، لأنه مصبٌّ لعدة أنهار ، ويقع في منطقة كثيرة المطر ، وهذا كله يُقلِّل من مُلوحته . أما البحر الميت مثلاً ، فهو أكثر البحار ملوحة ، لدرجة أن الأسماك لا تعيش فيه ، والسبب أنه لا توجد أنهار تصبُّ فيه ، ويقع في منطقة حارة ، قليلة المطر ، فيكثر تبخُّر الماء منه ، أما بقية المياه الملتقية في البحار والمحيطات فتكاد ملوحتها تكون واحدة . وسبق أنْ ذكرنا الحكمة من اتساع مساحة الماء المالح في البحار والمحيطات ، وقُلْنا : إن اتساع سطح الماء يزيد في نسبة البخر ليتوفر الماء العَذْب الصالح للريّ وللشرب ، ومثَّلْنا لهذه العملية بكوب الماء تتركه على المكتب لمدة شهر وتعود فتجده كما هو تقريباً ، أما إنْ سكبْتَهُ على أرض الحجرة فإنه يجفّ قبل أنْ تغادرها ، لماذا ؟ لأنك وسَّعت مساحة التبخر . إذن : وسَّع اللهُ سطحَ المالح ليعطينا المطر الكافي لاستمرار الحياة ، إذن : لا يُذَمُّ الماء المالح إنْ قُوبل بالعَذْب لأنه أصل وجوده . لذلك قال الشاعر في المدح : @ أهدى لمجلسِهِ الكَريم وإنَّما أهدى له ما حُزْت من نَعْمائهْ كَالبَحْرِ يُمطِره السَّحَابُ ومَا لَهُ فَضْلٌ عليهِ لأنه مِنْ مَائِهْ @@ ومعلوم أن الماء في الكون له دورة معروفة ، قال الله فيها : { وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً * فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً * فَٱلْجَارِيَاتِ يُسْراً } [ الذاريات : 1 - 3 ] . فالماء الذي خلقه الله في الكون هو هو لا يزيد ولا ينقص ، فما يستهلكه الإنسان مثلاً من الماء يُخرجه على شكل فضلات وبول وعرق … إلخ وما تبقَّى في جسمه من نسبة المائية وهي 90 في المائة من وزنه تمتصها الأرض بعد موته ، كذلك الزرع والحيوان ، فهي إذن دورة معروفة مشاهدة ، كذلك فالحياة دورة فحين نقول لك : إن الله قادر على إعادتها فَخُذْ من المُشَاهَد دليلاً على صِدْق ما غاب . وقوله سبحانه : { وَمِن كُلٍّ … } [ فاطر : 12 ] أي : ما من الماءيْنِ العذب والمالح { تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } [ فاطر : 12 ] والمراد السمك ، وهو في الماء العَذْب كما في الماء المالح ، والطَّعْم واحد ، ولم تجد مثلاً أسماك الماء المالح مالحة كالفسيخ مثلاً أو السردين ، ذلك لأن الكائن الحيَّ يمتصُّ ما يحتاج إليه ، ويترك العناصر الأخرى . وكلمة { لَحْماً طَرِيّاً } [ فاطر : 12 ] إشارة إلى أن السمك ينبغي أنْ يُؤكل طرياً طازجاً ، فإن يبُسَ وخرج عن طراوته فلا تأكله ، وقد اشتهر عن العرب اللحمُ القديد ، حيث كانوا يُجفِّفون لحم الأنعام في حَرِّ الشمس ويقددونه ليعيش فترة أطول ، فهي طريقة من طرق حفظ اللحوم تناسب لحوم الأنعام ، أما لحوم الأسماك فتفسد إنْ خرجتْ عن هذا الوصف { لَحْماً طَرِيّاً … } [ فاطر : 12 ] . ثم يذكر الحق سبحانه نعمة أخرى من نِعَم البحر : { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } [ فاطر : 12 ] والحلية ما يُتزيَّن به من اللؤلؤ والمرجان وغيرهما مما يخرج من البحر ، وهذه زينة عامة للرجال وللنساء على خلاف حلية الذهب التي تحرم على الرجال ، فللرجل أنْ يتحلَّى بما يشاء من حلية البحر ، فلا نَهْي عن شيء منها ، وحتى حلية الذهب للنساء ، فإن المرآة تتحلى بها لمن ؟ للزوج . { وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ } [ فاطر : 12 ] أي : السفن في البحر { مَوَاخِرَ } [ فاطر : 12 ] يعني : تشقّ البحر شَقّا في رحلات الصيد أو رحلات السفر ، وهنا مظهر من مظاهر الإعجاز القرآني ، فالخطاب في القرآن أول مُخَاطَب به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم تخاطب أمته من باطن خطابه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يركب البحر ولا رآه . فحين يقول القرآن على لسانه : { وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } [ الرحمن : 24 ] يعني : كالجبال الشامخة . نقول : ومتى ظهرتْ السفن العملاقة التي تُوصَف بهذا الوصف ؟ إنها لم تظهر إلا في العصر الحديث ، وكانت قَبْلُ سفناً عادية بدائية ، فمن الذي أخبر سيدنا رسول الله بهذا التقدم الجاري الآن في صناعة السفن ، حتى إنه لَيُخيَّل لك أنها مدينة متحركة على أمواج البحر . وقوله : { لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } [ فاطر : 12 ] تطلبوا رزق الله وفضل الله في حركة السفن ، سواء كانت للصيد أو للسفر { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ فاطر : 12 ] كلمة لعل كما نعلم تدل على الرجاء ، والمعنى : لعلكم بعد كل هذه النعم تقابلونها بالشكر ، وفي هذا إشارة إلى قِلَّة مَنْ يشكر . بعد ذلك ينتقل بنا السياق إلى ظاهرة أخرى وآية من آيات الكون : { يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ … } .