Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 20-22)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله سبحانه : { وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ } [ يس : 20 ] يدل على أن الرسولين الأولين اللذين كذَّبهما القوم كان لهما أنصار مؤمنون بهما ، مُصدِّقون لدعوتهما ، فلما جاء الثالث وأيضاً كذَّبه القوم أخذتْ هؤلاء المؤمنين حَمِيَّة الحق ، وكان منهم هذا الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى لِنُصْرة الحق وإعلاء كلمته ، وقالوا : اسمه حبيب النجار . ونلحظ في هذه الآية أولاً قوله سبحانه : { مِنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ } [ يس : 20 ] أنه لم يكن قريباً من مكان هذه المناظرة الكلامية ، وأنه تحمَّل المشاق في سبيل نُصْرته للحق ، وهذا دليل على قوة الطاقة الإيمانية عند هذا الرجل ، ودليل أيضاً على أن الرسولين السابقين قد بلغت دعوتهما أقصى المدينة . ثم وصفه بأنه رَجُلٌ ولم يَقُلْ فلان ، فذكر الصفة البارزة في تكوينه أنه رجل . وهِمَّة الرجل هي التي تحدد مقدار رجولته ، فرجل يريد الحياة لنفسه فقط والكل يخدمه ، يرى كل شيء لنفسه ولا يرى نفسه لأحد ، هذا رجل وطنه نفسه وذاته ، ورجل وطنه أهله وعياله يُعدِّي إليهم منفعته ، ورجل وطنه أمته ، ورجل وطنه العالم كله مثل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو فلسفة الرجل . إذن : هِمَم الرجال هي التي تحدد أوطانهم ومنازلهم ، وأعلى هذه المنازل رجل وطنه العالم كله لأن الخَلْق كلهم عيال الله ، فمَنْ يحب الخير لهم وينثر عليهم ما ينفعهم فقد استأمنه الله على رزق العباد . ومثّلنا لبيان ذلك قلنا : هبْ أن لك أولاداً ، واحداً منهم يأخذ مصروفه فينفقه على ملذاته ورغباته وفيما لا يفيد ، والآخر يشتري بمصروفه حلوى ويُوزِّعها على إخوته الصغار ، فأيهما تُؤثِره بعد ذلك ، وأيهما تزيده ؟ كذلك اليد المناولة عن الله لخَلْق الله ، وكأن الله يقول له : أنت مأمون على نعمتي ، مأمون على خَلْقى ، ومن ذلك قول الشاعر : @ وَإنِّي امْرُؤٌ لاَ تَسْتَقِرّ دَرَاهِمِي عَلَى الكَفِّ إلاَّ عَابِرَاتِ سَبيلِ @@ وقوله { يَسْعَىٰ } [ يس : 20 ] يعني : أن مجيئه لم يكُنْ عادياً ، إنما مسرعاً يجري { قَالَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ } [ يس : 20 ] وقوله { يٰقَوْمِ } [ يس : 20 ] نداء لتحنين المنادَى ، كأنه يقول : يا أهلي ، يا عشيرتي ، يا أبنائي ، فذكر ما بينه وبينهم من صلات المودة والرحمة . وقوله { ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ } [ يس : 20 ] يدل على تأييده لهم ، وهو هنا يذكر الحيثية الأولى لهذا الاتباع هي أنهم مرسلون ، ثم يذكر لهم حيثية أخرى فيقول : { ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } [ يس : 21 ] يعني : لم يطلبوا منكم أجراً على دعوتهم . وكلمة { مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً } [ يس : 21 ] لا تُقال إلا إذا كان العمل الذي قام به يحتاج إلى أجر ، والرسول ما جاء إلا لينفع المرسَل إليهم ، فهو منطقياً يحتاج إلى أجر ، لكن مَنْ يستطيع أنْ يوفيه أجره ؟ لا أحد يوفيه أجره إلا الله لأن نَفْع الرسول يتعدَّى نفْع الدنيا إلى نفع الآخرة ، فمَنْ من البشر يعطي الرسول ما يستحقه ؟ لذلك رأينا الرسل جميعاً يقولون هذه الكلمة { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ } [ يونس : 72 ] يعني : أنتم أيها القوم لا تملكون مقدار أجري ، ولا تقدرون على تقييمه ، إنما يعطيني أجري الذي أعمل من أجله . كل رسل الله قالوا هذه الكلمة إلا رسولين ، هما : سيدنا إبراهيم ، وسيدنا موسى عليهما السلام ، لماذا ؟ قالوا : لأن إبراهيم كانت أول دعوته لأبيه آزر ، ولا يليق أنْ يطلب منه أجراً على دعوته إياه إلى الحق ، كذلك سيدنا موسى أول ما دَعا دَعا فرعون الذي ربَّاه في بيته ، وله فَضْل عليه ، فكيف يطلب منه أجراً ؟ وقوله سبحانه : { وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } [ يس : 21 ] حيثية ثالثة لاتباعهم ، فهم مُرْسَلُون من قِبَل مَنْ أرسله الله ، والله لا يرسل إلا مَنْ يهدي إلى صراط مستقيم يوصل إليه سبحانه . فهؤلاء المرسلون مهتدون في أنفسهم ، وبالتالي هادون لغيرهم ، فهو إذن يذكر الأمر وعِلَّته ، فهؤلاء الرسل لا يسألون أجراً ، ولا يدعون إلى ضلال ، بل إلى هدى . ثم يلتفت هذا الرجل إلى نفسه ، فيقول للقوم : أنا لا آمركم أمراً أنا عنه بنَجْوَة ، ولو كنتُ سأغشُّكُم فلن أغشَّ نفسي { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي } [ يس : 22 ] أي : خلقني من العدم ، فهو أوْلى بالعبادة ، هو الذي صنعني ، أوجدني من عدم ، وأمدَّني من عُدم ، ولا زال يُوالي عليَّ نعمه ، إذن : ما يمنعني أن أعبده وهو أَوْلَى بالعبادة ، ولو لم تكُنْ عبادتي له إلا لأُكافئه على نعمه دون نظر إلى ثواب ، لكانتْ عبادته واجبة . وهذا ليس كلامَ رسول ، إنما كلام رجل مؤمن متطوع باشر الإيمانُ قلبه ، فأراد أنْ يزكّي إيمانه ، وأنْ يُعدّى هدايته إلى غيره من باب قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " . الحق سبحانه خلق الخَلْق أولاً ، ثم أرسل الرسل بالمنهج لهدايتهم ، الرسل بدورهم بلَّغوا الأصحاب ، ومَنْ بلغه شيء تحمله كما يتحمله الرسول ، لذلك قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها ، ثم أدَّاها إلى مَنْ لم يسمعها فرُبَّ مُبلَّغ أَوْعَى من سامع " . إذن : مسئولية الدعوة يتحملها أولاً الرسل ، ثم المؤمنون بهم الذين بلغتهم الدعوة ، وهذا التحمُّل ليس تفضُّلاً ، إنما تكليف من الله ، لذلك قال سبحانه : { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] ، فكما شهد الرسول أنه بلغكم ، فواجب عليكم أنْ تشهدوا على الناس أنكم بلَّغتموهم لأن المؤمنين بالرسالة امتداد للرسول . لذلك ، رأينا هذا الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة يسعى لإعلاء كلمة الحق وتأييد الرسل لم يكن رسولاً ولم يكلِّفه أحد بهذا ، إنما تطوَّع به لأن طاقة الإيمان عنده دفعته إلى هذا الموقف . ثم نراه يُطبِّق المسألة على نفسه أولاً ، فيقول : { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي } [ يس : 22 ] وهذا تلطُّف في عرض الدعوة وأحرى أنْ تُقبل . وقوله : { وَمَا لِيَ } [ يس : 22 ] كأنه يتعجب من أمر نفسه لو أنه لم يؤمن بالذي فطره ، والتعجب من النفس أصدق ألوان التعبير ، كأنه لا يماري ولا يداهن ويقول ما في نفسه ، كما قال سيدنا سليمان - عليه السلام : { مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ } [ النمل : 20 ] . فالجواب ليس عند الغير ، بل عنده هو ، كأنه يقول : لا بُدَّ أن يكون الهدهد موجواً لكني لا أراه ، فالقاعدة أنه يستعمل الكل والكل موجود ، فالعجب عندي أنا : ما لي لا أراه ، ثم يعيد الأمر { أَمْ كَانَ مِنَ ٱلْغَآئِبِينَ } [ النمل : 20 ] يعني : إما أنْ يكون المانع من عندي أنا ، أو من عنده ، كأنه يُشكِّك في الأول ، ثم يُدقِّق فيجده من عنده هو . فقوله : { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ يس : 22 ] كأن أمر الفطرة والخَلْق يقتضي أن تَعْبد الذي فَطر ، والخروج عن هذا أمر يستدعي العجب . لذلك في سورة البقرة الحق سبحانه يلقننا في مخاطبة الكافرين { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ } [ البقرة : 28 ] يعني : كيف يكون ذلك منكم ، إنَّ كفركم بالله الذي خلقكم ورزقكم أمر لا يجوز بالمنطق العقلي ، فأخبرونا إذن الطريقة التي كفرتم بها . والفَطْر : الخَلْق العجيب على غير مثال سابق لذلك يقول سبحانه عن نفسه { بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ البقرة : 117 ] يعني : خلق السماوات والأرض ابتداءً على غير مثال سابق احتذاه في الخَلْق . أو : أن المعنى { ٱلَّذِي فَطَرَنِي } [ يس : 22 ] أي : على الإيمان به إيمان فطرة ، إذن : فإيمانه بالله إما إيمان شكر لمن خلقه وأوجده على غير مثال سابق ، أو إيمان الفطرة الأولى التي فطر الله الناسَ عليها ، واستجاب هو لِمَا في ذاته من هذه الفطرة . وحين نتأمل مهمة هذا الرجل نجد أنه أشبه بالقلب بالنسبة لباقي أعضاء الجسم ، أي : من حيث تكوين مراحل الإيمان ، كيف ؟ الجسم عبارة عن جوارح متعددة ، لكل جارحة مهمة ووظيفة ، وحياة الجسم تتطلب مقومات الحياة من الطعام والشراب والهواء ، فيأكل الإنسان من نتاج الأرض ، ويشرب من مائها . وبعد عملية التناول وما فيها من نِعَم لله في أسنان تقطع ، وأضراس تطحن ، ولعاب يساعد في عملية البلع ، وعصارات هاضمة … الخ يتمثل الغذاء في الجسم إلى دم يستقبله القلب فيأخذ منه حاجته أولاً ليقوِّي نفسه على ضَخِّ الدم إلى باقي الأعضاء ليؤدي كلُّ عضوٍ مهمته . كذلك ، كان هذا الرجل من حيث قوة إيمانه ، فبعد أنْ آمن واستقر الإيمان في قلبه أراد أنْ يُعدِّي إيمانه إلى قومه ، وأنْ يُشِعَّ عليهم من الهداية التي تشرَّب بها قلبه ، إذن : فهو يمثل قلب الرسالات ، لذلك جاء في الحديث الشريف أن " يس قلب القرآن " وهذه المسألة لم تأتِ إلا في يس ، لذلك كانت هي قلب القرآن لأنها جاءت بآخر مرحلة من مرَاحل الرسالات التطوعية التي تخدم الرسالة الواجبيّة . وما دام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن يس قلب القرآن ، فعلى المؤمن أنْ يقبل كل ما جاء في فضلها مما صَحَّ عن رسول الله ، وليس من الضروري أن نقف على عِلَّة كل شيء ، لأن الإيمان كما قلنا غيب ومشهد ، والمؤمن يأخذ من صِدْق ما شاهد دليلاً على صِدْق ما غاب عنه . إذن : لنأخذ هذه الأحاديث على العين والرأس ، حتى إن قرأتَ يس ، فلم تجد ما أخبرتْ به الأحاديث ، فيكفيك أنك تقرأ كلام الله ، ولن تُعدم الخير على أيِّ حال لذلك رأينا بعضهم يضع الأحاديث التي تحثُّ على قراءة القرآن . وقد ورد في حديث أُبيٍّ أن المريض الذي تُقرأ عنده يس تأتيه صفوف الملائكة على قدر كل حرف منها عشرة آلاف مَلَك ، لا يفارقونه حتى يموت ، ثم يشهدون تغسيله ، ويشهدون تشييعه ، والصلاة عليه ودفنه . وفي رواية أخرى : مَنْ قُرئت عنده يس وهو مريض ، أو قرأها هو لنفسه يأتيه جبريل عليه السلام بكأس فيه ماء ، فيشربه شربةً لا يظمأ بعدها ، ولا يحتاج إلى أحواض الأنبياء . هذا كله وغيره على العين والرأس ، وتحقق معناه عندنا ، أو لم يتحقق . وقوله سبحانه { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ يس : 22 ] يعني : لا تظنوا أنكم تفلتون من الله لأنكم في قبضته ، وأنتم في البدء كنتم منه بإقراركم ، وكذلك تكون النهاية إليه والمرجع ، فإنْ لم تُقدِّروا نعمة الإيجاد فقدِّروا مغبة العَوْد . ونلحظ في هذه الآية أن الرجل المؤمن يتكلم عن نفسه بصيغة المفرد { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي } [ يس : 22 ] ثم يعدل عن الإفراد إلى خطاب الجماعة والقوم المكذِّبين { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ يس : 22 ] ولم يَقُلْ : وإليه أرجع ، لماذا ؟ قالوا : لأن الطاعة التي هي أصل العبادة إنما تأتي على مراحل ثلاث : الأولى : أنْ تطيع مَنْ تجد فيه نموذجاً كمالياً يستحق أن يُطاع ، ويستحق أنْ يُحمد لكماله ، وإنْ لم يَعُدْ عليك منه شيء ، كما تنظر مثلاً إلى قصيدة رائعة معبِّرة فتعجب بقائلها وتثني عليه ، أنت لا يعود عليك شيء منها لكنك تُقدِّر الشاعر لذاته . الثانية : أن تطيع إنساناً وتُقدِّره لمنفعة تعود عليك منه ، وكثيراً ما نرى الناس يخدمون رجلاً جباناً لا يستحق أنْ يخدم ، وما خدمه الناسُ إلا طمعاً فيما عنده . والمرحلة الثالثة : أنْ تطيع شخصاً أو تحترمه لمجرد الخوف منه واتقاءَ شرِّه . وقد حقق الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى المرحلتين الأولى والثانية في قوله { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي } [ يس : 22 ] فأنا أعبده لأنه بكماله يستحق أن يُعبد ، وأعبده لنعمه المتوالية ، أما المرحلة الثالثة فجعلها لهؤلاء المكذِّبين من قومه ، فقال { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ يس : 22 ] . يعني : تنبهوا يا قوم : إذا لم تقدروا في الله صفات الكمال التي يُحبُّ لأجلها ، ولم تقدروا في الله نعمه المتوالية عليكم ، فاعلموا أن العودة إليه والمرجع والمصير بين يديه ، وهو سبحانه قوي عليكم ، لا يفلت من قبضته أحد . ثم يؤكد هذا الرجل المؤمن على مسألة عباده الله وحده ، فيزيد : { أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ ٱلرَّحْمَـٰنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً … } .