Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 60-61)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
كأن سائلاً سأل : وهل يستحق الكفار كلَّ هذا العذاب وهذا الغضب من الله تعالى ؟ فيجيب الحق سبحانه : نعم ، يستحقون لأن الله نبَّههم وحذرهم فلم يستجيبوا ، ذلك في قوله تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ } [ يس : 60 ] . فالحق سبحانه لم يأخذكم على غِرَّة ، إنما نبَّهكم وبيَّن لكم مداخل الشيطان وحبائله وحِيلَه لأن الشيطان من خيبته رمى بكل مداخله مع المؤمنين أمام الله ، فحذرنا الله منها ، وبيَّن لنا عداوته لنا ، وعداوته المسبقة مع آدم عليه السلام منذ أنْ أُمِر بالسجود فأبى . ولم يَنْتهِ أمره عند عدم السجود ، إنما أغوى آدم ، وأراد أن ينتقم منه ومن ذريته من بعده ، بل وأقسم على ذلك أمام خالقه سبحانه ، فقال بجبروت الإغواء كما حكى القرآن : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] لكنه تذكر عبوديته الحقة للرب الأعلى ، فقال : { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ ص : 83 ] . فهؤلاء لا مدخلَ لي إليهم ، والمعنى أن الخصومة ليست بيني وبينك ، إنما بيني وبين آدم . وحين أقسم إبليس ، أقسم قسماً يؤكد قدرته على ما يهدد به ، فمثلاً سحرة فرعون حين أقسموا قالوا : { بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ ٱلْغَالِبُونَ } [ الشعراء : 44 ] . أمَّا إبليس فيعرف جيداً كيف يقسم ، فقال { فَبِعِزَّتِكَ } [ ص : 82 ] يعني : باستغنائك عن خَلْقك ، مَنْ شاء فليؤمن ، ومَنْ شاء فليكفر ، هذا هو الباب الذي سأدخل منه إليهم ، أمَّا من تريده أنت يا رب ، فلا أستطيع أن أقترب منه . ومعنى { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ } [ يس : 60 ] يعني : آمركم كما في قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ] . يقول تعالى : ألم آمركم يا بني آدم أنْ تحذروا مكايد الشيطان ، وأن تتنبَّهوا إلى مداخله إليكم وشباكه وخططه ، ألم يقل هو نفسه : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الأعراف : 16 ] إذن : كان ينبغي ما دُمْتم أخذتم المصْل الواقي أن تكون لديكم المناعة اللازمة لمواجهة هذا العدو ، خاصة وقد أسفر عن وجهه ، وأوضح خططه ، فهو لكم على الصراط المستقيم ، ومداخله من سبل الطاعة لا من سبُل المعصية ، الشيطان لا يأتي أهل الفجور ورُوَّاد الخمارات ، إنما يأتي أهل الطاعات ليفسدها عليهم . وصدق الشاعر الذي قال عَمَّن أسرف على نفسه في المعاصي : @ وَكُنْتُ امْرءاً مِن جُنْدِ إبْليسَ فَارْتَقَى بِيَ الحَالُ حَتَّى صَارَ إبْليسُ مِنْ جُنْدِي @@ ومعنى : { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ } [ يس : 60 ] عبادته طاعة نزغاته ووسوسته ، والعلة في ذلك { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ يس : 60 ] يعني : عدو بَيِّن العداوة ، محيط بأساليب الكَيْد لأعدائه . وبعد أن نهانا ربنا - تبارك وتعالى - عن عبادة الشيطان يُوجِّهنا إلى العبادة الحقة : { وَأَنِ ٱعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [ يس : 61 ] حين نتأمل هاتين الآيتين نجد أن العلة في النهي عن عبادة الشيطان { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ يس : 60 ] كان القياس في الآية بعدها : وأن اعبدوني لأنني حبيبكم كما جاء في الحديث القدسي : " يا ابن آدم ، أنا لك مُحِبُّ ، فبحقي عليك كُنْ لي محباً " . لكن الحق سبحانه لم يُعلل عبادته سبحانه بالمحبة ، إنما اعبدوني لأني أدعوكم إلى الصراط المستقيم النافع لكم المنظِّم لحياتكم ، اعبدوني لهذا ، أما مسألة المحبة فهي موجودة وأنا أحبكم ، فسواء كنتُ أحبك أو لا أحبك كان ينبغي عليك اتباع هذا الصراط المستقيم لأنك المستفيد منه . ولأهل المعرفة وقفة عندما قرأوا : { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الفاتحة : 6 ] { هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [ يس : 61 ] ، { وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ } [ الأنعام : 153 ] . قالوا : الصراط المستقيم هو الطريق العَدْل الذي لا اعوجاجَ فيه ، ويمثل أقربَ الطرق وأقصر مسافة بين نقطتين ، وساعةَ تسمع كلمة الطريق تعرف أن له بداية ونهاية من … إلى ، وهنا إشارة لطيفة ينبغي أن يتنبه لها المؤمن ، هي أن الدنيا بالنسبة لك ما هي إلا طريق أنت تسير فيه ، له بداية وله نهاية ، فهي - إذن - ليستْ دارَ قرار وإقامة ، إنما دارُ عبور ومرور . والإنسان حينما يقيم في مكان ولا يجد به راحته يتركه إلى مكان آخر ، ولو استقام له المكان الأول ما تركه لذلك يقول تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ قَالْوۤاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا … } [ النساء : 97 ] . وهذه الهجرة أيضاً تحتاج إلى طريق أهاجر فيه من … إلى . فكأن الحق سبحانه يقول لك : أنت في الدنيا عابر سبيل ، إلى غاية أعظم وأشرف ، فاسلُك إليها أقرب الطرق الموصِّلة إليها ، وإذا كنتَ قد عاينتَ بنفسك مِنْ في الدنيا التي تعيشها ، فإن الله تعالى قد أخبرك عن إلى التي تسير إليها . أنت في الدنيا تعيش بالأسباب المخلوقة لله ، والممدودة إليك في : الأرض التي تعيش عليها ، والماء الذي تشربه ، والهواء الذي تتنفسه ، والعقل الذي تفكر به … الخ لكن ربك الذي مدَّ لك هذه الأسباب ، يخاف عليك الغرور بالأسباب : { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [ العلق : 6 - 7 ] . لذلك يجعل هذه الأسباب تتخلف في بعض الأحيان ، كي تتعلق أنت بالمسبِّب سبحانه ، وتظل على ذكر له سبحانه ، فتدعوه وتلجأ إليه . ومن الناس مَنْ يحب الله دعاءهم ، ويحب أنْ يسمع أصواتهم ، فيبتليهم ليدعوه فيسمعهم ، وآخرون يكره الله نداءهم ، فيأمر الملائكة أنْ تقضي حوائجهم ، حتى لا يسمع لهم صوتاً . ثم يحكي لنا الحق سبحانه تاريخَ الشيطان مع بني آدم ، هذا التاريخ الذي كان علينا أنْ نتذكره دائماً : { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً … } .