Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 78-79)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
تحدَّثنا عن ضرب المثل وقُلْنا : الضرب إيقاع جسم على جسم بعنف ، ويُشترط فيه أن يكون الضاربُ أقوى من المضروب ، وإلا كانت النتيجة عكسية ، ومن ذلك قول الرافعي رحمه الله : @ أيَا هَازِئاً مِنْ صُرُوفِ القَدَرِ بِنْفسِكَ تَعْنُفُ لاَ بالقَدَرْ وَيَا ضَارِباً صَخْرةً بِالعَصَا ضَرَبْتَ العَصَا أَمْ ضَرَبْتَ الحَجَرْ ؟ @@ كذلك ضَرْب المثل هو إيجاد شيء يُوقع على شيء ، ليبين لك الأثر الحاسم الفعَّال ، فحين تشكّ مثلاً في شيء يُوضِّحه لك بمثَلٍ لا تشك فيه ، فيُقرِّبه إلى ذهنك ، ومن ذلك قوله تعالى لما أراد أنْ يُوضِّح لنا بطلان الشرك ، والفرق بينه وبين التوحيد ، قال سبحانه : { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 29 ] . نعم ، لا يستوي عبد يتنازعه عدة أسياد ، وعبد مِلْك لسيد واحد ، كذلك لا يستوي التوحيد والشرك . فقوله تعالى : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً } [ يس : 78 ] أي : أبيّ بن خلف ، والمثل الذي ضربه أنْ أخذ عَظْماً قد بَلِي ، وراح يُفتِّته أمام رسول الله وهو يقول : أتزعم يا محمد أن ربك سيحيي هذا ، بعد أن صار إلى ما ترى ؟ وإنْ كانت الآيات نزلت في أُبيٍّ ، إلا أنها لا تقتصر عليه ، إنما تشمل كل مُكذِّب بالبعث ، مُنكر لهذه القضية . ومعنى { وَنَسِيَ خَلْقَهُ } [ يس : 78 ] يعني : لو تذكَّر خَلْقه هو ، وتأمل في ذات نفسه وجد الدليل على ما يُكذِّب به لأن الله خلقك من العدم ، فصار لك وجود ، فإذا مِتَّ بقيتْ منك هذه البقايا التي تُفتِّتها منثورة في الأرض ، ومعلوم بحسب ما تفهمه العقول أن الإيجاد من موجود أهون من الإيجاد من العدم { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] . الحق سبحانه في هذه الآية يخاطبنا على قَدْر عقولنا ووَفق منطقنا ، وإلاَّ فلا يُقال في حقه تعالى هَيِّن وأهون ، ولا سهل وأسهل ، هذا يُقال في حق البشر فحسب . وقوله : { قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [ يس : 78 ] حينما ألقى هذا السؤال على الكافرين المكذِّبين بالبعث يقولون : لا أحد يستطيع أنْ يُحيي الموتى ، لماذا ؟ لأنه يقيس المسألة على عَجْز القدرة في البشر ، لا على طلاقة القدرة في الخالق سبحانه . والعجيب أن الله تعالى يُثبت للإنسان صفة الخَلْق ، فيقول : { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [ المؤمنون : 14 ] والإنسان ينكر ويُكذِّب بقدرة الله في الخَلْق ، فإذا كان ربك لم يَضِنّ عليك بأنك خالق ، فلا تضنّ عليه بأنه أحسن الخالقين . وقلنا : إذا وجدتَ صفة لله تعالى ووصف بها البشر فلا بُدَّ أنْ تأخذها في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] فلله تعالى وجه لا كالأوجه ، وله سبحانه يد لكن ليستْ كالأيدي … وهكذا لأن الله تعالى واحد في ذاته ، وواحد في صفاته ، وواحد في أفعاله . الله موجود وأنت موجود ، لكن وجودك ليس كوجوده ، الله غني وأنت غني ، لكن غِنَاك ليس كغِنَى الله ، غَنِى الله ذاتيٌّ لا ينفصل عنه سبحانه ، أما غناك فموهوب . الله خالق وأنت خالق ، لكن فَرْقٌ بين خَلْقك وخَلْق الله ، خَلْقك من موجود وخَلْقه تعالى من عدم ، خَلْقك جامد لا حياة فيه ، وخَلْق الله في حياة فينمو ويتغذى ويتكاثر … الخ فأنت خالق ، لكن ربك سبحانه أحسن الخالقين . إذن : لله تعالى صفات الكمال المطلق ، يُفيض منها على خَلْقه فيعطيهم من صفاته تعالى ، لكن تظل له سبحانه طلاقة القدرة . ومعنى { رَمِيمٌ } [ يس : 78 ] قديمة بالية تتفتت . ثم يردُّ الحق سبحانه على هذا المكذِّب وأمثاله : { قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ يس : 79 ] ومعنى { أَنشَأَهَآ } يعني : من العدم ، ولأنْ ينشئها من موجود أَوْلَى ، وقوله { أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ يس : 79 ] في الرد على هذا المكذِّب يوحي بأن هناك مرة أخرى ، وإحياءً آخر غير الأول { وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [ يس : 79 ] أي : بالخَلْق الأول وبالخَلْق الثاني ، فالعلم بالخَلْق الأول أنْ يعطيه صفات ومواهبَ في ذاته ، وأنْ يستعمره في الأرض ، وأن يجعلَ له منهجاً ينظم حياته فيها . وبهذا المنهج أرشده إلى سبيل الخير ، وحذَّره من سبُل الشر ، وأوضح له الجزاء على هذا وذاك ، وهو سبحانه عليم بالخَلْق الآخر في الآخرة . أي : يعلم كيف يجازيه على ما قدَّم . إذن : معنى { وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [ يس : 79 ] يعني : عليم كيف يُكلِّفه ، وعليك كيف يجازيه ، وعلى قَدْر التكليف يكون الجزاء . الفلاسفة المسلمون أحبوا أنْ يوضحوا لنا هذا المعنى ، فقالوا : حينما أراد الله أن يخلق من العدم وقبل أنْ توجد السماء أو الأرض قال : اخرجى يا سماء كوني سماءً فكانت ، وهكذا الأرض . إذن : قادريته سبحانه هي التي فعلت ، ومقدورية الأشياء هي التي انفعلت ، فما الذي انتهى من هذين العنصرين ؟ إنهما باقيتان موجودتان : قادرية الفاعل سبحانه ، ومقدورية الأشياء .