Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 37, Ayat: 40-47)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

سبق الحديث عن جزاء الكافرين ، وهنا استثناء { إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ الصافات : 40 ] فهم مُسْتَثْنون بعيدون من هذا المصير ، وكلمة { ٱلْمُخْلَصِينَ } [ الصافات : 40 ] جمع مخلَص بالفتح ، فهي اسم مفعول . يعني : الذين أخلصهم الله واصطفاهم لطاعته وعبادته { أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 41 ] أي : في الآخرة لأن رزق الدنيا ليس معلوماً لأنك تكدُّ وتتعب في الدنيا ، وقد تُحرَم ثمرة هذا الكَدِّ ، فالزراعة قد تبور ، والتجارة قد تخسر . إذن : لنا رزق في الدنيا ، لكنه غير معلوم ، أما في الآخرة فرزْقُكَ معلوم مُخصَّص لك لا يتخلف أبداً ، ولا تحول دونه الأسباب لأنك تعيشُ في الآخرة - كما قلنا - مع المسبِّب سبحانه . وسبق أنْ عرّفنا الرزق وقلنا : إنه كلُّ ما يُنتفَعُ به ، حتى ما يُؤخذ من الحرام يُعَدُّ رزقاً لذلك قال تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [ البقرة : 172 ] . ثم ينتقل السياق إلى تفصيل ما أجمل في كلمة رزق . وأهم رزق ينتفع به المرء هو القُوت الضروري الذي به قِوَام حياته ، ثم التفكّه بما يُرفِّه هذه الحياة ، لكن الحق سبحانه هنا لم يذكر الضروريات ، إنما ذكر الترف الزائد على الضروريات { فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ } [ الصافات : 42 ] مع أنه في مواضع أخرى ذكر الضروريات ، ثم أتبعها بالفاكهة والتَّرَفيات ، مثل قوله سبحانه : { لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } [ يس : 35 ] . إذن : لماذا اقتصر الكلام هنا على الفاكهة فحسب ؟ قالوا : لأن الكلام هنا عن الآخرة ، والأكل في الآخرة لا يكون عن حاجة إلى الطعام ، إنما يكون متعةً وتفكُّهاً بالأكل . أو : يكون المراد أن الله تعالى ما دام قد ضمن لك التفكُّه ، فمن باب أوْلَى ضمن لك القُوتَ الضروري . ومعنى { وَهُم مُّكْرَمُونَ } [ الصافات : 42 ] أي : أنهم لا يُرْمَى لهم الأكل ليأكلوا ، كما نرمي الحشيش للبهائم مثلاً ، لا نقصد بذلك إكرامهم ، إنما يُسَاق لهم هذا الرزق { وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } [ الصافات : 42 - 43 ] لأنه رِزْقُ المحبِّ لأحبابه . وقوله تعالى : { عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } [ الصافات : 44 ] يعني : لا يكلِّفهم مشقة التزاور ، فالسُّررُ التي يجلسون عليها متقابلةٌ ، بحيث إنْ أردتَ أنْ تزورَ أخاً لك تجده أمامك ، دون أن تنتقل إليه ، فهذه مسألة مضمونة . { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } [ الصافات : 45 ] ، وفي آية أخرى بيَّن سبحانه الذين يطوفون بهذه الكأس { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } [ الواقعة : 17 - 18 ] . الكأس يُرَاد بها الخمر أو القدح الذي يُوضَع فيه الخمر { مِّن مَّعِينٍ } [ الصافات : 45 ] يعني : من شيء تراه بعينيك ، أو من عيون تجري كما تجري عيون الماء . ثم يصف هذه الخمر بأنها بيضاء والبيضاء هي أصْفى أنواع الخمر عند العرب . { لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } [ الصافات : 46 ] ولم يقُلْ لذيذة . إنما لَذَّةٍ أي : هي في ذاتها لذّة ، وكأن اللذة تجسدتْ في هذه الكأس ، كما تقول : فلان عادل . فإنْ أردتَ المبالغة في هذا الوصف قُلْتَ : فلان عَدْلٌ . ووصف الخمر في الآخرة بأنها { لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } [ الصافات : 46 ] لِيُفرِّق بينها وبين خَمْر الدنيا ، لأن خمر الدنيا كما نراهم يشربونها في الأفلام لا تُشرَب للذة ، لأنه يضع القليل منها في الكأس ، ثم يصبُّها في فمه صَبّاً ، ويتناولها على مَضَضٍ لكراهية طعمها . لكن طالما أن خمر الدنيا لا لَذَّةَ في تعاطيها ، فَلِمَ يشربونها ؟ يشربونها للأثر الذي ينشأ منها من اختلال العقل الذي يُعَدُّ حارساً على الحركة ، وهم يريدون الانطلاق والحرية من هذا الحارس لذلك فأجوَدُ أنواع الخمر عندهم والعياذ بالله ، هذه التي تُغيِّبه عن وَعْيه ، وتفعل به كذا وكذا . أما خمر الآخرة فلا يجمعها بهذه إلا اسمها فحسْب ، خمر الآخرة لذَّة ، تشعر بها حين تتناولها ، وتأخذها رشفةً رشفةً على مهل لتتذوَّقَ حلاوتها ، ثم هي لا تذهب بالعقل ولا تغتاله { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } [ الصافات : 47 ] أي : لا تغتال العقول ، ولا تذهب بها . { وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } [ الصافات : 47 ] نقول : انزف الحوض . يعني : أفرغه من الماء بالتدريج إلى نهايته ، ونزفَ الدمُ يعني : سَالَ من الجسم واحدة واحدة ، إلى أنْ يموتَ الإنسان . ومن أنواع الخمر ما يُسبِّب نَزْفاً لما في البطن ، بحيث يفرغ شاربها كل ما في بطنه ، ويُخرِج كلَّ ما في جَوْفه . أما خمر الآخرة فلا تُسبِّب هذا النزف . أو : يكون المعنى { وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } [ الصافات : 47 ] أي : لا تُستنزف عقولهم ، ولا يَسْكَرون بسببها ، كما تُسكِر خَمْر الدنيا .