Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 134-134)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ومادام الرسل قد أبلغوا الإنسان أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة فلمَ الغفلة ؟ ولمَ لا تأخذ الزيادة ؟ ، ولماذا نذهب إلى صفقة الدنيا فقط مادام الحق يملك ثواب الدنيا من صحة ومال وكل شيء ، وإن اجتهد الإنسان في الأسباب يأخذ نتيجة أسبابه . فالحق يقول : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] ولم يقل الحق : إن " الآخرة " في مقابلة للدنيا وأن من يأخذ الدنيا لن يأخذ الآخرة أو العكس ، بل يريد - سبحانه - للإنسان أن يأخذ الدنيا والآخرة معاً ، فيا من تريد ثواب الدنيا لا تحرم نفسك بالحمق من ثواب الآخرة . وكلمة " ثواب " فيها ملحظ فهناك أشياء تفعل لك وإن لم تطلب منها أن تفعل ، وتنتفع بعملها وإن لم تطلب من الأشياء أن تفعل . وهناك أشياء أخرى تنفعل بحركتك ، فإن تحركت وسعيت وعملت فيها تعطك . مثال ذلك الأرض ، فإن بذرت فيها تخرج الزرع ، واختلافات الناس في الدنيا تقدماً وتأخراً وحضارة وبداوة وقوة وضعفاً إنما تأتي من القسم الذي ينفعل للإنسان ، لا من القسم الذي يُفْعَل للإنسان . ويسخر له ، وتقدم بعض البشر في الحضارة إنما جاء لأنهم بحثوا في المادة والعناصر ، وأنجزوا إنجازات علمية هائلة في المعامل ، فإن أردت أن تكون متقدماً فعليك أن تتعامل مع العناصر التي تنفعل لك ، والأمم كلها إنما تأخذ حضارتها من قسم ما ينفعل لها ، وهم والمتأخرون شركاء فقط فيما يُفعل لهم ويسخَّر لصالحهم . وإن أردنا الارتقاء أكثر في التحضر … فعلينا أن نذهب إلى ما يُفْعل ويسخّر لنا ونتعامل نعه حتى ينفعل لنا … كيف ؟ . الشمس تمدنا بالضوء والحرارة ، ونستطيع أن نتعامل مع الشمس تعاملاً آخر يجعلها تنفعل لنا ، مثلما جئنا بعدسة اسمها " العدسة اللاّمة " التي تستقبل أشعة الشمس وتتجمع الأشعة في بؤرة العدسة فتحدث حرارة تشعل النار ، أي أننا جعلنا ما يُفْعَل لنا يتحول إلى منفعل لنا أيضاً . ويسمون ذلك الطموح الانبعاثي . والمطر يفعل للإنسان عندما ينزل من السماء في وديان ، ويستطيع الإنسان أن يحوله إلى منفعل عندما يضع توربينات ضخمة في مسارات نزوله فينتج الكهرباء . إذن فحضارات الأمم إنما تنشأ من مراحل . المرحلة الأولى : تستخدم ما ينفعل لها ، والمرحلة الثانية : ترتقي فتستخدم ما ينفعل معها . والمرحلة الثالثة : تستخدم ما يفعل لها كمنفعل لها مثال ذلك استخدام الطاقة الشمسية بوساطة أجهزة تجمع هذه الطاقة ارتقاءً مع استخدام ما يفعل للإنسان لينفعل مع الإنسان . وأسمى شيء في الحضارة الآن هو أشعة الليزر التي تصنع شبه المعجزات في دنيا الطب . وكلمة " ليزر " مأخوذة كحروف من كلمات تؤدي معنى تضخيم الطاقة بواسطة الانبعاث الاستحثائي ، فكلمة " ليزر " - إذن - مثلها كلمة " ليمتد " فاللام من كلمة . والياء من كلمة ، والتاء من كلمة ، والدال من كلمة ، وذلك لتدل على مسمّى . وترجمة مسمّى " ليزر " هو تضخيم الطاقة عن طريق الانبعاث الاستحثائي . ففيه انبعاث تلقائي هو مصدر الطاقة الذي يُفعل للإنسان وإن لم يطلبه ، أما الانبعاث الاستحثائي فينتج عندما يحث الإنسان الطاقة لتفعل له شيئاً آخر . والانبعاث التلقائي متمثل في الشمس فتعطي ضوءا وحرارة . وعندما جلس العلماء في المعامل وصمموا العدسة التي تنتج هذه الأشعة أهاجوها وأثاروها وأخذوا ليصنعوا منها طاقة كبيرة . وهكذا أنتجوا أشعة الليزر التي هي تضخيم للطاقة عن طريق الانبعاث الاستحثائي ، ولأن العنوان طويل فقد أخذوا من كل كلمة حرفاً وكوّنوا كلمة " ليزر " . إذن فالارتقاءات الحضارية تأتي عن طريق تعامل الإنسان مع القسم الذي ينفعل للإنسان ، واستحثاث واستخدام ما يُفعل له بطريقته التلقائية لينفعل معه كأشعة الشمس مثلا . وجئنا بذكر كل ذلك من أجل أن نستوضح آفاق قول الحق : { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا } . وكلمة " ثواب " إذن توحي بأن هناك عملاً ، فالثواب جزاء على عمل . فإن أردت ثواب الدنيا ، فلا بد أن تعمل من أجل ذلك . فلا أحد يأخذ ثواب الدنيا بدون عمل . ومن عظمة الحق ولطفه وفضله ورحمته أن جعل ثواب الدنيا جائزة لمن يعمل ، سواء آمن أم كفر ، ولكنه خص المؤمنين بثواب باق في الآخرة . ولذلك يقال : " الدنيا متاع " . ويزيد الحق على ذلك : { فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً } . ومن الحمق أن يوجد طريق يعطي الإنسان جزاءين ثم يقصر همته على جزاء واحد . وهنا ملحظ آخر فحينما تكلم الحق عن ثواب الدنيا ، دل على أنه لا بد من العمل لنأخذ الدنيا ، ولم يذكر الحق ثواباً للآخرة ، بل جعل سبحانه الثواب للاثنين … الدنيا والآخرة ، إذن فالذي يعمل للدنيا من المؤمنين إنما يأخذ الآخرة أيضاً لأن الآخرة هي دار جزاء ، والدنيا هي مطية وطريق وسبيل . فكأن كل عمل يفعله المسلم ويجعل الله في باله … فالله يعطيه ثواباً في الدنيا ، ويعطيه ثواباً في الآخرة . ويذيل الحق الآية : { وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً } - إذن - فثواب الدنيا والآخرة لا يتأتى إلا بالعمل ، والعمل هو كل حدث يحدث من جوارح الإنسان ، القول - مثلاً - حدث من اللسان ، وهو عمل أيضاً ، والمقابل للقول هو الفعل . فالأعمال تنقسم إلى قسمين : إلى الأقوال وإلى الأفعال . ولتوضيح هذا الأمر نقرأ قول الحق : { كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ * وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً } [ الفجر : 17 - 19 ] وعندما سمع الأغنياء هذا القول عرفوا سلوكهم ، ولما سمع الفقراء هذا القول ، كأنهم قالوا : نحن لا نملك ما نطعم به المسكين ، فكان في قوله تعالى : { وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } ما يوضح لهم الطريق إلى العطاء : أي حضوا غيركم على العطاء . أي أن الذي لا يملك يمكنه أن يكلم الغني ليعطي المسكين ، والحضُّ هو كلام . والكلام نوع من العمل . والحق سبحانه وتعالى يستنفر المؤمنين لينصروا دين الله فيقول : { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 91 ] هو سبحانه أعفى الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون في القتال وأسقطه عنهم ولم يحاسبهم عليه ، ولكن في الآية نفسها ما يُحدد المطلوب من هؤلاء ، وهو أن ينصحوا لله ورسوله . إذن فغير القادر يمكنه أن يتكلم بفعل الخير ويذكِّر به الآخرين وينصح به ، هذا هو معنى قول الحق : { وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً } فسبحانه يسمع قول مّن لا يستطيع ولا يملك القدرة على سلوك ما ، وسبحانه بصير يرى صاحب كل سلوك . إذن فثواب الدنيا يحتاج إلى عمل ، والعمل هو انفعال كل جارحة بمطلوبها ، فاللسان جارحة تتكلم ، واليد تعمل ، وكل جوارح الإنسان تعمل ، لكن ما عمل القلوب ؟ عمل القلوب لا يُسمع ولا يُرى ، ولذلك قال الحق عن إخلاص القلب في حديث قدسي : " الإخلاص سرّ من أسراري استودعته قلب من أحببت من عبادي " وهكذا نعرف أن نية القلوب خاصة بالله مباشرة ولا تدخل في اختصاص رقيب وعتيد وهما الملكان المختصان برقابة وكتابة سلوك وعمل الإنسان ، ولذلك نجد الحق يصف ذاته في مواقع كثيرة من القرآن بأنه لطيف خبير ، لطيف بعلم ما يدخل ويتغلغل في الأشياء ، وخبير بكل شيء وقدير على كل شيء . ونجد الحديث الشريف يقول لنا : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى . فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " . فالعمل يكون بالجوارح ، ومن الجوارح اللسان ، وحتى نضبط هذه المسألة لنفرق ما بين الفعل والعمل . نقرأ ونفهم هذه الآية : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ] ونجد المقابل للقول هو الفعل . والكل عمل . ويأتي نوع آخر من الأعمال ، لا هو قول ولا هو فعل ، وهو " النية القلبية " . وعندما يقول الحق : إنه كان سميعاً بصيراً ، فالمعنى سميع للقول ، وبصير بالفعل . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } .