Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 157-157)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ونلاحظ أن الآية تبدأ بواو العطف على ما قبلها ، وهو قوله الحق : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ ٱللَّهِ وَقَتْلِهِمُ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } [ النساء : 155 - 156 ] ويعطف سبحانه على جرائمهم هذه الجريمة الجديدة : { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ } وأكثر ما يدهش في هذا القول هو كلمة { رَسُولَ ٱللَّهِ } ، فهل هي هنا من قولهم ؟ إن كانوا قد قالوها فهذا دليل اللجاجة المطلقة ، ولو قالوا : إنهم قتلوه فقط لكان الجرم أقل وطأة ، ولكن إن كانوا قد عرفوا أنه رسول الله وقتلوه فهذا جرم صعب للغاية . أو أن كلمة { رَسُولَ ٱللَّهِ } هنا في هذه الآية ليست من مقولهم الحقيقي وإنما من مقولهم التهكمي . وأضرب المثل لأوضح هذا الأمر … كأن يأتي شخص ذو قوة هائلة ومشهور بقوته ويأتي له شخص آخر ويضربه ويهزمه ويقول لجماعته : لقد ضربت الفتى القوي فيكم . إذن قد يكون قولهم : { رَسُولَ ٱللَّهِ } هو من قبيل التهكم ، أو أن كلمة { رَسُولَ ٱللَّهِ } هنا هي من قول الحق سبحانه وتعالى مضافاً إلى قولهم ليبشع عملهم . " وقولهم : { إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ } فكأن الحق لم يشأ أن يذكر عيسى ابن مريم إلا مرتبطا أو موصوفاً بقوله : { رَسُولَ ٱللَّهِ } لنعلم بشاعة ما فعلوه ، فعيسى ابن مريم رسول الله على رغم أنوفهم ، وخاصة أن الكلام في مجال انكارهم وجحودهم لنعم الله ، وكفرهم بآيات الله ، وكأن الحق يسخر منهم لأنه ما كان الله ليرسل رسولاً ليبين منهجه للناس ثم يسلط الناس على قتله قبل أن يؤدي مهمته . وجاء بكلمة { رَسُولَ ٱللَّهِ } هنا كمقدمة ليلتفت الذهن إلى أن ما قالوه هو الكذب . وبعد ذلك يقول لنا سبحانه : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ } . وكلمة " وما صلبوه " هنا هي لتوضيح أن مجرد ظنهم أنهم قتلوا المسيح جعلهم يشيعون ذلك ويعلنونه للناس ، وهم قد فعلوا ذلك قبل أن يتوجهوا إلى فكرة الصلب ، فقد قتلوا شخصاً شبهه الله لهم ولم يكن هو المسيح وصلبوه من بعد ذلك ، وبمجرد قتل هذا الشخص طاروا بخبر القتل قبل أن تبدأ فكرة الصلب . ويقطع الله عليهم هذا الأمر ، فيقول : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ } . وقد لفتنا سبحانه من قبل إلى أن عملية ميلاد المسيح تم استقبالها من بني إسرائيل بضجة ، فعلى رغم علمهم خبر مجيء المسيح بالميلاد من غير أب ، وعلى رغم أنهم علموا بناتهم الاستشراف أن يكون لأية واحدة منهن شرف حمل المسيح ، وعلى رغم ذلك قالوا البهتان في مريم التي اصطفاها الله . وكذلك كان لمسألة الوفاة ضجة . واقتران الضجتين : ضجة الميلاد وضجة الوفاة معاً في رسالة السيد المسيح يدلنا على أن العقل يجب أن تكون له وحدة تفسيرية ، فساعة يتكلم العقل عن قضية الميلاد بالنسبة لعيسى ابن مريم لا بد أن يستشعر الإنسان أن الأمر قد جاء على غير سنة موجودة ، وساعة يبلغنا الحق أن بني إسرائيل بيتوا النية لقتل عيسى ابن مريم ، وأن الله رفعه إليه تكون المسألة قد جاءت أيضا بقضية مخالفة ، ولا بد أن نصدق ما بلغنا الله به ، وأن يتذكر العقل أن الميلاد كان مخالفاً ، فلماذا لا تكون النهاية مخالفة أيضاً ؟ وكما صدقنا أن عيسى ابن مريم جاء من غير أب ، لا بد أن نصدق أن الحق قد رفعه في النهاية وأخذه ، فلم يكن الميلاد في حدود تصور العقل لولا بلاغ الحق لنا . وكذلك الوفاة لا بد أن تكون مقبولة في حدود بلاغ الحق لنا . والميلاد والنهاية بالنسبة لعيسى ابن مريم كل منهما عجيبة . وإن فهمنا العجيبة الأولى في الميلاد فنحن نعتبرها تمهيداً إلى أن عيسى ابن مريم دخل الوجود ودخل الحياة بأمر عجيب ، فلماذا لا يخرج منها بأمر عجيب ؟ وإن حدثنا الحق أن عيسى ابن مريم خرج من الحياة بأمر عجيب فنحن لا نستعجب ذلك لأن من بدأ بعجيب لا عجب أن ينتهي بعجيب . وسبحانه وتعالى حكم وقال : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ } وكلمة { شُبِّهَ لَهُمْ } هذه هي دليل على هوج المحاولة للقتل ، فقد ألقى شبهه على شخص آخر . وذلك دليل على أن المسألة كانت غير طبيعية ، ليس فيها حزم التبيّن من المتربصين القتلة . ونعلم أن الحواريين وأتباع سيدنا عيسى كانوا يلفون رءوسهم ويدارون سماتهم ، ولذلك قال الحق لنا : { وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ } أي أنهم قد شبه لهم أنهم قتلوه . واختلفت الروايات في كلمة " شبه لهم " ، فمن قائل : إنهم حينما طلبوا عيسى ابن مريم ليقتلوه دخل خوخة ، والخوخة هي باب في باب ، وفي البيوت القديمة كان يوجد للبيت باب كبير لإدخال الأشياء الكبيرة ، وفي هذا الباب الكبير يوجد باب صغير يسمح بمرور الأفراد ، وفي سقف البيت توجد فتحة وكوَّة اسمها روزنة أو ناروظة . فلما طلبوا عيسى دخل الخوخة ، ودخل خلفه رجل اسمه " تطيانوس " وعندما رأى سيدنا عيسى هذا الأمر ألهمه الله أن ينظر إلى أعلى فوجد شيئاً يرفعه ، فلما استبطأ القومُ " تطيانوس " خرج عليهم فتساءلوا : إن كان هذا تطيانوس فأين عيسى ؟ وإن كان هذا عيسى فأين تطيانوس ؟ إذن فقد اختلط عليهم الشبه بين " تطيانوس " وعيسى ، وألقى الله شبه عيسى على " تطيانوس " فقتلوه . أو أن عيسى عليه السلام حينما دخلوا عليه كان معه الحواريون وقال لهم عيسى : أيكم يُلقي عليه شبهي وله الجنة ؟ فماذا إذن يريد الحواري لنفسه أكثر من الجنة ؟ وقدم عيسى عليه السلام الجائزة الكبرى لأي مؤمن ، وقبل واحد من الحواريين هذه المهمة ، ويقال له " سرخس " . فألقى شبه المسيح عيسى عليه ، فقتل اليهود " سرخس " . وقالوا : إنه حينما عرف بعض الذين ذهبوا لقتل عيسى أنه رُفع ، خافوا أن تنتشر حكاية رفع عيسى بين الناس فيؤمنوا برسالة عيسى ، وقد ينتقم الناس من الذين أرادوا قتله . ولذلك جاء القتلة بشخص وقتلوه وألقى على هذا القتيل شبه عيسى وأعلن القتلة أنهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم . أو أن القتيل هو واحد ممن باعوا نبي الله عيسى لليهود ، ولما رأى المشهد ووجد المتربصين بعيسى يدخلون على الحواريين وفيهم عيسى وسأل المتربصون الحواريين : أيكم عيسى ؟ فتيقظت ملكة التوبة في نفس الذي وشى بعيسى وقادة تأنيب الضمير على خيانة الرسول إلى أن يقول : " أنا عيسى " . ولم يتصور المتربصون أن يجيب إنسان على قولهم : " أيكم عيسى " . إلا وهو عيسى بالفعل لأن مشهد المتربصين يوحي أنهم سيقتلون عيسى . وقتلوا الذي اعترف على نفسه دون تثبت . أو أن واحداً باع عيسى لقاء ثلاثين دينارأً وتشابه عليهم فقتلوا الواشي ، ولم يظفروا بعيسى ابن مريم . ونحن كمسلمين لا نهتم اهتماماً كبيراً بتلك الروايات . فالمهم أنهم قالوا قتلنا عيسى . وصلبناه . وقرآننا الذي نزل على رسولنا صلى الله عليه وسلم قال : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ } . وقال الحق لنا : إنه رفع عيسى إليه ، وانتهت المسألة بالنسبة لنا لأننا كمؤمنين لا نأخذ الجزئيات الدينية أولاً فإن صدقناها آمنا ، لا . نحن نؤمن أولاً بمُنَزَّل هذه الجزئيات ونصدق من بعد ذلك كل ما جاء منه سبحانه ، وهو قال ذلك فآمنا به وانتهت المسألة . إن البحث في هذا الأمر لا يعنينا في شيء ، ويكفينا أن الحق سبحانه وتعالى قال : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ } . ويدلنا هذا القول على عدم تثبت القتلة من شخصية القتيل ، وهو أمر متوقع في مسألة مثل هذه ، حيث يمكن أن تختلط الأمور . إننا نرى ذلك في أية حادثة تحدث مع وجود أعداد كبيرة من البشر وأعينهم مفتوحة ، وعلى الرغم من ذلك تختلف فيها الروايات . بل وقد تكون الحادثة مصورة ومسجلة ومع ذلك تختلف الروايات ، فما بالنا بوجود حادثة مثل هذه في زمن قديم لا توجد به كل الاحتياطات التي نراها في زماننا ؟ إذن فاضطراب الآراء والروايات في تلك الحادثة أمر وارد ، ويكفينا أن الحق سبحانه وتعالى قال : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ } . فعيسى باق لأن الحق لم يأت لنا بخبر موت عيسى . ويبقى الأمر على أصل ما وردت به الآيات من أن الله سبحانه وتعالى رفع عيسى ابن مريم . وكمسلمين لا نستبعد أن يكون الحق سبحانه وتعالى قد رفعه إلى السماء لأن المبدأ - مبدأ وجود بشر في السماء - قد ثبت لرسولنا صلى الله عليه وسلم ، فقد حدثنا صلى الله عليه وسلم أنه عُرج به إلى السماء ، وأنه صعد وقابل الأنبياء ورأى الكثير من الرؤى ، إذن فمبدأ صعود واحد من البشر من الأرض وهو لا يزال على قيد الحياة البشرية المادية إلى السماء أمر وارد . والخلاف يكون في المدة الزمنية ، لكنه خلاف لا ينقض مبدأً ، سواء صعد وبقي في السماء دقائق أو ساعات أو شهوراً . فإن حاول أحد أن يشكك في هذه المسألة نقول له : كل أمر قد يقف العقل فيه يتناوله الحق سبحانه وتعالى تناولاً موسعاً . فسبحانه خالق رحيم لا يورد نصاً بحيث يتوقف العقل أمامه ، فإن قبل العقل النص كان بها ، وإن لم يقبله وجدت له مندوحة ، لأنه أمر لا يتعلق بصلب العقيدة . فهب أن إنساناً قال إن عيسى لم يرفع بل مات ، فما الذي زاد من العقائد وما الذي نقص ؟ ذلك أمر لا يضر ولا ينفع . ومثل ذلك الإسراء ، جاء فيه الحق بالقول القرآني : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ } [ الإسراء : 1 ] ولم يقل الحق أي قول في أمر المعراج ، لأن الإسراء آية أرضية ، انتقل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس . ونعلم أن رسول الله لم يذهب إلى بيت المقدس قبل الإسراء ، بدليل أن كفار مكة أرادوا إحراج الرسول فقالوا له : صف لنا بيت المقدس . وهم واثقون من عدم ذهابه إليه من قبل . وكان في الطريق قوافل لهم رآها صلى الله عليه وسلم ، ووصف صلى الله عليه وسلم بيت المقدس وقال لهم عن أخبار قوافلهم . وجاءت القوافل مثبتة لصدق محمد صلى الله عليه وسلم . إذن كان الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم آية أرضية يمكن أن يقام عليها الدليل . ولذلك جاء بها الحق صريحة فقال : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى } . لكن المعراج لم يذكره الحق صراحة ، فلم يكن من قريش ولا من أهل الأرض من رأي سدرة المنتهى ، ولم يكن لأحد من أهل الأرض القدرة على أن يصف طريق المعراج . إذن فالآيات التي يقف فيها العقل يتناولها القرآن تناولاً موسعاً رحمة بالعقول لأن الإنسان إن اعتقد بها فهذا أمر جائز ، وعدم الاعتقاد بها لا يؤثر في أصل العقيدة ، ولأ في أصول التكليفات ، ومدارها التصديق . ومادام الحق سبحانه وتعالى قد فوض رسوله أن يعطينا أحكاماً . إن عملنا بها جزانا الله الثواب ، وإن لم نعمل بها نالنا العقاب { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } ، فكيف لا يفوضه في أن يقول لنا بعضاً من الأخبار ؟ ! ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وذكره البخاري في صحيحه أنه قال : " والذي نفسي بيده ، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، وحتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها " ثم يقول أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم { وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } [ النساء : 159 ] . هذه أخبار أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم . إذن لا توجد قضية عقدية تقف مستعصية أمام عقول المسلمين خاصة . أن البعض قد يقول : إن الحق سبحانه قد قال : { إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ آل عمران : 55 ] وقد شرحنا من قبل في خواطرنا عن سورة آل عمران كل الشرح لهذه المسألة . قلنا : إن علينا أن ننتبه إلى " واو العطف " بين " متوفيك " و " رافعك " . ومن قال إن " واو العطف " تقتضي الترتيب ؟ إن " واو العطف " تقتضي الجمع فقط كقولنا : " جاءني زيد وعمرو " ، هذا يعني أن زيداً جاء مع عمرو . أو ان زيداً جاء أولاً ، أو أن عمراً جاء أولاً وتبعه زيد ، فـ " الواو " لا تقتضي الترتيب ، وإنما مقتضاها الجمع فقط لكن إن قلنا " جاءني زيد فعمرو " فزيد هو الذي جاء أولاً وتبعه عمرو لأن " الفاء " تقتضي الترتيب ، أما " الواو " فتأتي لمطلق الجمع ولا تتعلق بكيفية الجمع ، وسبحانه قال : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } هذا الضرب من الجمع لا يدل على أن التوفي قد تم قبل الرفع ، ودليلنا أن الحق سبحانه أنزل في القرآن آيات تدل على مثل هذا ، كقوله الحق : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ } [ الأحزاب : 7 ] فسبحانه أخذ الميثاق من محمد صلى الله عليه وسلم وجمع معه سيدنا نوحاً وإبراهيم ، فهل هذا الجمع كان قائماً على الترتيب ؟ لا لأن نوحاً متقدم جداً في الموكب الرسالي وسبق سيدنا رسول الله بسنوات طويلة ويفصل بينهما رسل كثيرون . إذن فـ " الواو " لا تقتضي الترتيب في الجمع . ولماذا جاء الحق بأمر الوفاة مع أمر الرفع ؟ جاء الحق بذلك ليشعر عيسى أن الوفاة أمر مقطوع به ، لكن الرفع مجرد عملية مرحلية . أو جاء قوله الحق : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } لأن الإنسان المخلوق لله مكون ومركب من مادة وفي داخلها الروح ، وعندما يريد الحق أن ينهي حياة إنسان ما ، فهو يقبضه بدون سبب وبدون نقض في البنية ، ويموت حتف أنفه ، أما إذا ما ضرب إنسان إنساناً ضربة عنيفة على رأسه فالمضروب أيضاً يموت ، لأن الروح لا تحل في جسم به عطب شديد . إذن فالحق أوضح لعيسى : أنا آخذك إليّ وأرفعك متوفياً وليس بجسدك أَيُّ نقض لبنيتك أو هدم لها أو لبعضها ، بل آخذك كاملاً . فـ " متوفيك " تعني الأخذ كاملاً دون نقض للبنية بالقتل . ونحن - كما عرفنا من قبل - نفرق بين القتل والموت . فالموت هو أن تُقبض الروح حتف الأنف ، أما القتل فهو هدم للبنية فتزهق الروح ، والدليل على ذلك أن الحق في كتابه الكريم قال : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } [ آل عمران : 144 ] إذن فحين قال بنو إسرائيل : إنهم قتلوا عيسى ابن مريم كذبهم الحق وقال : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ } . ورفعه الله إليه كاملاً ، وسبحانه وتعالى يقول : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } . ويوضح الحق سبحانه وتعالى : لم يتيقنوا أنهم قتلوا عيسى ابن مريم ، لكنهم شكوا فيمن قُتل ، فلم يعرف المتربصون لقتله أقتلوا عيسى أو تطيانوس أو سرخس ؟ والحق سبحانه جاء هنا بنسبتين متقابلتين ، فبعد أن نفى سبحانه نبأ مقتل عيسى ابن مريم قال : { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ } . والنسبة الأولى المذكورة هنا هي الشك ، وهو نسبة يتساوى فيها الأمران . والنسبة الثانية هي اتباعهم للظن ، وهو نسبة راجحة . لقد بدأ الأمر بالنسبة إليهم شكاً ثم انقلب ظناً . وينهي الحق ذلك بعلم يقيني { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } وسبحانه ينفي بذلك انهم قتلوه يقيناً ، واليقين - كما نعلم - هو الأمر الثابت المعقود في الواقع والأعماق بحيث لا يطفو إلى الذهن ليناقش من جديد أو يتغير ، وله مراحل هي : مرحلة العلم ، واسمها علم اليقين ، ومرحلة العين ، واسمها عين اليقين ، ومرحلة الحقيقة ، واسمها حق اليقين . وعندما يخبرنا واحد من الناس أن جزءا من نيويورك اسمه " مانهاتن " . وأن مانهاتن هذه هي جزيرة يصل تعداد سكانها إلى عشرة ملايين نسمة ، وفيها ناطحات سحاب ، وجاء هذا الخبر ممن لا نعرف عنه الكذب فيسمعه من لم يَر نيويورك ، فيصير مضمون الخبر عنده علماً متيقناً لأن الذي أخبر به موثوق به . وإن جاء آخر ووجه للسامع عن نيويورك دعوة لزيارتها ولبى السامع الدعوة وذهب إلى نيويورك ، هنا تحول الخبر من " علم يقين " إلى " عين اليقين " . وإن جاء ثالث وصحب السامع إلى قلب نيويورك وطاف به في كل شوارعها ومبانيها ، فهذا هو " حق اليقين " . وأسمى أنواع اليقين هو " حق اليقين " ، وقبلها " عين اليقين " ، وقبل " عين اليقين " " علم اليقين " . وحينما عرض سبحانه المسألة قال : { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ } [ التكاثر : 3 - 7 ] هو سبحانه يعطينا علم اليقين ، ويصدقه المؤمنون بهذا العلم قبل أن يروه ، وسيرى المؤمنون وهم على الصراط النارَ وذلك عين اليقين . أما مسألة دخول الذين يرون الجحيم إليها فأمر سكت عنه الحق لأن هناك من يدخل الجنة ولا يدخل النار ، وهناك من يدخل النار ولا يدخل الجنة . والكافرون بالله هم الذين سيرون الجحيم حق اليقين . ويأتي " حق اليقين " في موضع آخر من القرآن الكريم : { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلْيَقِينِ } [ الواقعة : 92 - 95 ] فكل مكذب ضال سينزل إلى الحميم ويصلى الجحيم ويعاني من عذابها حق اليقين . إذن فقوله الحق عن مسألة قتل عيسى ابن مريم : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } يصدقه الذين لم يشاهدوا الحادث ، تصديق علم يقين لأن الله هو القائل . والذين رأوا الحادث عرفوا أنهم لم يقتلوه ولكنهم شكوا في ذلك . وأما من باشر عملية القتل لإنسان غير عيسى عليه السلام فهو الذي عرف حقيقة اليقين . والذي حدث هو ما يلي : { بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ … } .