Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 16-16)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والحق سبحانه وتعالى تواب ورحيم ، ونعرف أن صفة المبالغة بالنسبة لله لا تعني أن هناك صفة لله تكون مرة ضعيفة ومرة قوية ، وكل صفات الله واحدة في الكمال المطلق . وقلت من قبل : إنني عندما أقول : " فلان أكاَّل " قد يختلف المعنى عن قولي : " فلان آكل " ، فبمثل هذا القول أبالغ في وصف إنسان يأكل بكثرة ، فهل هو يأكل كثيراً في الوجبة الواحدة ، أو أن الوجبة ميزانها محدود لكن هذا الموصوف يعدد الوجبات ، فبدلاً من أن يأكل ثلاث مرات فهو يأكل خمس مرات ، عندئذ يقال له : " أكَّال " ، أي أَنّه أكثر عدد الوجبات ، وإن كانت كل وجبة في ذاتها لم يزد حجمها . أو هو يأتي في الوجبة الواحدة فيأكل أضعاف ما يأكله الإنسان العادي في الوجبة العادية ، فيأكل بدلاً من الرغيف أربعة ، فنقول : إنه " أكول " ، إذن فصيغة المبالغة في الخلق إما أن تنشأ في قوة الحدث الواحد ، وإما أن تنشأ من تكرار الحدث الواحد . إن قولك : " الله توَّاب " معناه أنه عندما يتوب على هذا وذاك وعلى ملايين الملايين من البشر ، فالتوبة تتكرر . وإذا تاب الحق في الكبائر أليست هذه توبة عظيمة ؟ هو تواب ورحيم لأنه سبحانه وتعالى يتصف بعظمة الحكمة والقدرة على الخلق والإبداع ، وهو الذي خلق النفس البشرية ثم قنن لها قوانين وبعد ذلك جرم من يخالف هذه القوانين ، وبعد أن جرم الخروج عن القوانين وضع عقوبة على الجريمة . والتقنين في ذاته يقطع العذر ، فساعة أن قنن الحق لا يستطيع واحد أن يقول : " لم أكن أعلم " لأن ذلك هو القانون ، وحين يجرم فهذا إيذان منه بأن النفس البشرية قد تضعف ، وتأتي بأشياء مخالفة للمنهج ، فنحن لسنا ملائكة ، وسبحانه حين يقنن يقطع العذر ، وحين يجرم فهو إيذان بأن ذلك من الممكن أن يحدث . وبعد ذلك يعاقب ، وهناك أفعال مجرمة ، ولكن المشرِّع الأول لم يجرمها ولم يضع لها قانوناً ، لا عن تقصير منه ، ولكن التجريم يأتي كفرع . إن الله سبحانه قد قدر أن النفس البشرية قد تفعل ذلك ، كالسرقة - مثلاً - إنه سبحانه وضع حداً للسرقة ، وقد تضعف النفس البشرية فتسرق ، أو تزني لذلك فالحد موجود ، لكن هناك أشياء لا يأتي لها بالتجريم والعقوبة ، وكأنه سبحانه يريد أن يدلنا من طرف خفي على أنها مسائل ما كان يتصور العقل أن تكون . مثال ذلك اللواط ، لم يذكر له حداً ، لماذا ؟ لأن الفطرة السليمة لا تفعله ، بدليل أن اللواط موجود في البشر وغير موجود في الحيوان . لكن ليس معنى ألا يجرم الحق عملاً أنه لا يدخل في الحساب ، لا ، إنه داخل في الحساب بصورة أقوى لأن التجريم والعقوبة على التجريم تدل على أن الفعل من الممكن أن يحدث ، وحين يترك هذه المسألة بدون تجريم ، فمعنى ذلك أن الفطرة السليمة لا يصح أن تفعلها ، ولذلك لم يضع لها حداً أو تجريماً ، وترك الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المكلف بالتشريع أن يضع حداً لهذه المسألة . إذن فعدم وجود نص على جريمة أو عقوبة على جريمة ليس معناه ألا يوجد حساب عليها ، لا . هناك حساب ، فقد تكون العقوبة أفظع ، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإلقاء الفاعل للواط والمفعول به من أعلى جبل . إن عقوبتهما أن يموتا بالإلقاء من شاهق جبل ، إذن فالعقوبة أكثر من الرجم . وهكذا نعرف أن عدم التجريم وعدم التقنين بالعقوبة لأي أمر غير مناسب للعقل وللفطرة السليمة دليل على أَنَّ هذا الأمر غير مباح ، والحق لم يترك تلك الأمور سكوتاً عنها ، ولكن هو إيحاء من طرف خفي أن ذلك لا يصح أن يحدث ، بدليل أنه لا تحدث في الحيوانات التي هي أدنى من الإنسان . وبعد ذلك قد يتعلل الإنسان الفاعل لمثل هذا القبح الفاحش بأنها شهوة بهيمية . نقول : يا ليت شهوتك المخطئة في التعبير عن نفسها بهيمية لأن البهائم لا يحدث منها مثل ذلك الفعل أبداً ، فلا أنثى الحيوانات تقترب من أخرى ، وكذلك لا يوجد ذكر حيوان يقترب من ذكر آخر ، وإذا ما حملت أنثى الحيوان فإنها لا تسمح لأي ذكر من الحيوانات بالاقتراب منها ، إذن فالقبح الفاحش من المخالطة على غير ما شرع الله يمكن أن نسميها شهوة إنسانية ، فالبهائم لا ترتكب مثل تلك الأفعال الشاذة . ومن يقول عن الشهوة إنها بهيمية فهو يظلم الحيوانات . والحق سبحانه وتعالى على الرغم من هذه الخطايا يوضح لنا : أنه التواب الرحيم ، لماذا ؟ انظر الحكمة في التوبة وفي قبولها ، فلو لم تحدث معصية من الإنسان الذي آمن ، لفقد التكليف ضرورته . معنى التكليف أنه عملية يزاحم الإنسان فيها نفسه ويجاهدها لمقاومة تنفيذ المعاصي أو لحملها على مشقة الطاعة . فمقاومة الإنسان للمعاصي خضوعاً للتكليف الإيماني دليل على أن التكليف أمر صحيح ، اسمه " تكليف " وإلا لخلقنا الله كالملائكة وانتهت المسألة . وحين يشرع الله التوبة ، فذلك يدل على أن الإنسان ضعيف ، قد يضعف في يوم من الأيام أمام معصية من المعاصي ، وليس معنى ذلك أن يطرده الله من عبوديته له سبحانه ، بل هو يقنن العقوبة ، وتقنين العقوبة للعاصي دليل على أنه سبحانه لم يُخرج الذي اختار الإسلام وعصى من حظيرة الإسلام أو التكليف ، ولو فرضنا أن الحق سبحانه لم يقنن التوبة لصارت اللعنة مصير كل من يضعف أمام شهوة ، ولصار العاصي متمرداً لا يأبه ولا يلتفت من بعد ذلك إلى التكليف ، يَلِغُ في أعراض الناس ويرتكب كل الشرور . إذن فساعة شرع الله التوبة سدَ على الناس باب " الفاقدين " الذين يفعلون ذنباً ثم يستمرون فيه ، ومع ذلك فسبحانه حين تاب على العاصي رحم من لم يعص إنه القائل : { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً } [ النساء : 16 ] ولو قال الحق إنه تواب فقط لأذنب كل واحد منا لكي يكون الوصف معه وقائم به لا محالة ، ولكنه أيضاً قال : { تَوَّاباً رَّحِيماً } [ النساء : 16 ] أي أنه يرحم بعضاً من خلقه فلا يرتكبون أي معصية من البداية . فالرحمة ألا تقع في المعصية . وبعد ذلك يشرع الحق سبحانه وتعالى للتوبة : { إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ … }