Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 172-172)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

مصدر الشرف للإنسان أن يحس ويشعر بتجلي الله عليه بعبوديته له ، وسبحانه عندما أراد أن يتجلى على نبينا الخاتم صلى الله عليه وسلم ويسري به إلى المسجد الأقصى قال : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 ] ولم يقل : " سبحان الذي أسرى برسوله " ولكنه قال : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ } لأن " العبودية " عطاء علوي من الله ، فكأن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم عندما تناهى في العبودية لله نال تناهي الخير ، فمن إذن يستنكف أن يكون عبداً لله ؟ لا يستنكف المسيح ذلك ، وكذلك الملائكة لا تستنكف أن تكون عبيداً لله . { وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } ويسمون ذلك ارتقاء في النفي ، مثلما يقول فلاح : لا يستطيع شيخ الخفر أن يقف أمامي ولا العمدة . إذن فالملائكة في الخلق أحسن من البشر . ولذلك قال الحق : { لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } وقال بعض العلماء : إن خواص البشر أفضل من خواص الملائكة ، وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر والأصل في اللغات أن توضع الألفاظ أولاً لمحسّات ، ثم تنتقل من المحسّات إلى المعنويات لأن إلف الإنسان في أول تكوين المدركات له إنما يكون بالحسّ ، كما قال الحق : { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] إذن مادام سبحانه قد قال : { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } فالذي يأتي من بعدها إنما يأتي كوسيلة للعلم ، وهي حواس السمع والإبصار والقدرة على تكوين الخبرة . ومثال ذلك عندما ندرس في الفقه موضوع الغصب . والغصب هو أن يأخذ أحد حق غيره قهراً وعلانية ، وهو غير السرقة التي يأخذها السارق خفية . وغير الخطف لأن الخطف هو أن تمتد يد لتشد شيئاً من أمام صاحبه ويجري الخاطف بعيداً ، أما الغصب فهو الأخذ عنوة . وكلها - الغصب ، والسرقة ، والخطف - هي أخذ لغير الحق ، والغصب مأخوذ من أمر حسيّ هو سلخ الجلد عن الشاة . وسُمِّيَ أخذ الحق من صاحبه غصباً ، كأنه أخذ للجلد . ونُقل المعنى من المُحسّات إلى المعنويات . وفي الآية التي نحن بصددها يقول الحق : { لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } . و " يستنكف " مثلها مثل " يستفهم " ، ومثل " يستخرج " . إذن فهناك مادة اسمها " نكف " ، و " النَّكْف " عملية حسّية تتمثل في أن يزيل الإنسان دمعة العين بأصبعه . ولنفرض أن إنساناً يعلم أن له كرامة في البيت وجاء له ظرف نفسي جعله يبكي ، فدخل عليه ابنه أو زوجته ، فهو يحاول إزالة الدمع بأصبعه . " واستنكف " معناها أزال " النَّكْف " . والنكف معناه أن يزيل الدمع بأصبعه . وإزالة الدمع بالأصبع تعني أن صاحب الدمع يستكبر أن يراه أحد باكياً لأنه مقهور على أمر قد كان ، وهذه العملية لا تحدث إلا عندما يريد الإنسان أن يستر بكاءه عن أحد . وانتقلت هذه الكلمة من المعنى الحسيّ إلى أي مجال فيه استعلاء ، مثلما يستنكف إنسان أن يسير في طريق إنسان آخر ، أو أن يجلس مع آخر ، أو يجلس في مقعد أقل من مقعد آخر . ويشرح ذلك المعنى الدارج بأن المسيح لا يجد غضاضة أن كان عبداً لله ، ولا يستكبر على ذلك بل هو يُشرف به . والملائكة المقربون أيضاً تشرف بهذا الأمر ، والملائكة المقربون هم الذين لا يعلمون شيئاً عن هذا العالم وليس لهم عمل إلا التسبيح لله لأنهم عرفوا العبودية لله . وهي عبودية ليست لمن يَسْتَذِل ، لكنها لمن يُعزّ ، وليست عبودية للذي يأخذ ولكنها للذي يعطي . والذي يستنكف من ذلك لا يعرف قيمة العبودية لله لذلك لا يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ، ولا الملائكة المقربون . ويضيف الحق : { وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } المستنكفون أو الذين على طريقة الاستنكاف ، ومن يشجعهم على ذلك ، كل هؤلاء يصيرون إلى جهنم . ويقول الحق بعد ذلك : { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } .