Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 56-56)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
و { نُصْلِيهِمْ … } [ النساء : 56 ] من الاصطلاء ، قد يقول قائل : ما دام يصلى النار وكلنا يعرف أن نار الدنيا حين تحرق شيئاً ينتهي إلى عدم ، وحين ينتهي إلى عدم إذن : فلا يوجد ألم ! ونقول : لتنتبه إلى أن الحق سبحانه وتعالى يقول في هذا الأمر { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ } [ النساء : 56 ] إذن فالعذاب ليس كنار الدنيا ، لأن نار الدنيا تحرق وتنتهي المسألة ، أما نار الآخرة فإنها عذاب سرمدي دائم مكرر { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ … } [ النساء : 56 ] ، فإذا ما حرّقت الجلود فإن جلوداً أخرى ستأتي ، أهي عين الأولى أم غيرها ؟ وحتى أوضح ذلك : أنت عندما يكون عندك خاتم مثلاً ، ثم تقول : أنا صنعت من الخاتم خاتماً آخر ، فالمادة واحدة أيضاً ، فهل التعذيب للجلود أو للأعضاء ؟ إن العذاب دائماً للنفس الواعية ، بدليل أن الإنسان قد يصيبه ورم فيه بعض الصديد " دُمّل " يتعبه ولا يقدر على ألمه ، وبعد ذلك يغفل فينام ، بمجرد أن ينام فلا ألم . لكن عندما يستيقظ يتألم من جديد . إذن : فالألم ليس للعضو بل للنفس الواعية ، بدليل أننا عندما ارتقينا في الطب ، قلنا إن النفس الواعية نستطيع أن نخدرها بحيث يحدث الألم ولا تشعر به ، ويفتح " الدُّمل " بالمشرط ولا يحس صاحبه بأي ألم . وهكذا تجد أن الجلود والأعضاء ليس لها شأن بالعذاب ، إنما هي موصلة للمعذب ، والمعذَّب هي النفس الواعية ، بدليل أنها ستشهد علينا يوم القيامة ، تشهد الجلود والجوارح ، وستكون آلة لتوصيل العذاب ومسرورة لأنها توصل لهم العذاب . إنه نظام إلهي فلا تتعجبوا من القرآن ، فإن العلم كلّما تقدم هدانا إلى شيء من آيات الله في الكون . أنتم الآن تخدرون النفس الواعية وتشقُّون الجسد بالمشارط كما يحلو لكم فلا يحدث له ألم ، وعرفتم أن الألم ليس للعضو ، إنما الألم للنفس الواعية ، إذن فكل الجوارح هي آلات توصِّل الألم للنفس الواعية ، وتكون مسرورة لأن النفس الواعية تعذب ، وهذه يشبهونها - مثلاً - بواحد عنده " حكة " في جلده ، فيهرش ، والهرش يُسيل دمه فيكون مستلذاً . إذن : فقوله : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ … } [ النساء : 56 ] أي : أن الجلود تبدل وتنشأ جلود أخرى من نفس مادتها توصل العذاب للنفس الواعية ، وهكذا . { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَٰتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً } [ النساء : 56 ] . نحن نعلم أن الحق سبحانه وتعالى أنزل كتاباً هو القرآن ، وجعله معجزة ومنهجاً ، وهذه هي الميزة التي امتاز بها الإسلام . فمنهج الإسلام هو عين المعجزة ، وكل رسول من الرسل كان منهجه شيئاً ومعجزته كانت شيئاً آخر . إن سيدنا موسى منهجه التوراة ومعجزته : العصا ، وسيدنا عيسى منهجه : الإنجيل ، ومعجزته : إبراء الأكمه والأبرص بإذن الله ، لكن معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت القرآن لأن دينه سيكون الامتداد النهائي لآخر الدنيا ، ولذلك جعل الله منهجه هو عين معجزته ، لتكون المعجزة دليلاً على صدق المنهج في أي وقت ، ولا يستطيع واحد من أتباع أي نبي سابق على رسول الله أن يقول : إن معجزة الرسول الذي أتبعه هي منهجه لأن معجزات الرسل السابقين على رسول الله كانت عمليات كونية انتهت مثل عود كبريت احترق ، فمَنْ رآه رآه وانتهى ، لكن المسلم يستطيع أن يقف ويعلن بملء فيه : إنَّ محمداً رسول الله وصادق ، وتلك معجزته . فمعجزة محمد صلى الله عليه وسلم باقية بقاءً أبدياً ، ومتصلة به أبداً . أما معجزة كل رسول سبق رسول الله فقد آدت مهمتها لمن رآها وانتهت ، وانفصلت معجزة كل رسول سابق على رسول الله عن منهجه . والمنهج القرآني فيه أحكام ، والأحكام معناها افعل كذا ، ولا تفعل كذا . وهي واضحة كل الوضوح منذ أن أنزل الله القرآن على رسوله وحتى تقوم الساعة . ومن فعل مطلوب الأحكام يثاب ، ومَنْ لم يفعله يعاقب . وكل الناس سواسية في مطلوب الأحكام إلى أن تقوم الساعة . أما آيات الله الكونية التي لا تتأثر ، فأي فائدة للإنسان إن عرفها أو لم يعرفها : فقد طمرها الله وسترها في القرآن مع إشارة إليها ، لأن العقل المعاصر لنزول الكتاب لم يكن قادراً على استيعابها في زمن الرسالة . ولو أن القرآن جاء بآية واضحة تقول : إن الأرض كروية وتدور ، بالله ماذا كان المعاصرون لرسول الله يقولون ؟ إن بعضاً من البشر الآن يُكذِّبون ذلك ، فما بالنا بالبشر المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لو قال لهم رسول الله ذلك لانصرفوا عن اتباع ما جاء به . لقد كانوا يستفيدون من كروية الأرض ، مثلما يستفيد منها الفلاح أو البدوي ، ومثلما يستفيد الناس الآن الذين لم يدرسوا الكهرباء برؤية التليفزيون وضوء المصباح الكهربائي وغير ذلك من الاستخدامات ، دون معرفة علمية بتفاصيل ذلك ، إنّ الشمس تسطع على الدنيا فيتبخر الماء من الأنهار والمحيطات والبحار ليصير سحاباً ، ثم ينزل المطر من السحاب . وكل هذه الآيات الكونية لم يعط الله أسرارها إلا بقدر ما تتسع العقول ، وترك في كتابه ما يدل على ما يمكن أن تنتهي إليه العقول الطموحة بالبحث العلمي . وعندما نتعرف نحن - المسلمين - على اكتشاف علمي جديد في الكون ، نقول : إن القرآن قد أشار له ، لكن قبل ذلك لا يصح أن نقول ذلك حتى لا يكذب الناس هذا الكتاب المعجز ، فسبحانه القائل : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ … } [ يونس : 39 ] . لو أن القرآن قال : إن كل شيء في الوجود يتكاثر ، وفيه موجب وفيه سالب ، ذكر وأنثى ، أكانوا يصدقون ذلك ؟ لا لأنهم كانوا لا يعرفون الذكر والأنثى إلا في الرجل والمرأة ، ويعرفون ذلك في الحيوانات وأيضاً في بعض النباتات مثل النخل ، لكن هناك نباتات كثيرة لا يعرفون حكاية التكاثر فيها ، ومثال ذلك القمح الذي نزرعه ونأكله ، وكذلك الذرة ، لم يكونوا عارفين بأن عنصر الذكورة يوجد في " الشواشي " العليا في كوز الذرة وأن الهواء يضرب تلك الشواشي فتنزل منها حبوب اللقاح فيخرج الحب ، ولذلك نجد الزّارع الذكي هو الذي يفتح " كوز الذرة " من أعلاه قليلاً حتى يتيح لحبوب اللقاح أن تصل إلى موقعها . وقد يفتح الفلاح أحد " كيزان الذرة " فيجد حبة ميتة وسط الحبوب المتراصة ويكتشف أنها حبة ليس لها خيط أي : لم تتصل بحبوب اللقاح وهو ما يقولون عنه في الريف " سنة عجوز " . إذن : فكل تكاثر له ذكورة وأنوثة ، ولذلك يقول ربنا : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [ يس : 36 ] . وكنا نعرف الأزواج في الأنفس ، ثم عرفناها في النبات ، وجاء الحق بـ { مِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [ يس : 36 ] لِتُدخل كل شيء ، وتكشف الموجب والسالب في الكهرباء ، وصرنا نعرف أن كل كائن فيه ذكر وأنثى ، وكلما تقدم العلم فهو يشرح الآيات الكونية . ومن رحمة الحق سبحانه بعقول الأمة المكلَّفة برسالة محمد لم يشأ أن يجعل نواميسه في الكون واضحة صريحة حتى لا تقف العقول فيها وتعجز عن فهمها ، وخاصة أن الكتاب واجه أمّة أمّيَّة ليست لها ثقافة . وهب أنه واجه العالم المعاصر ، إن هناك قضايا في الكون لا يعلمها العالم المعاصر ، فلو أن القرآن تعرض لها بصراحة لكانت سبباً من الأسباب التي تصرف الناس عن الكتاب . والقرآن جاء كتاب منهج ، والمعجزة أمر جاء لتأييد المنهج ، فلم يشأ أن يجعل من المعجزة ما يعوق عن المنهج ، لكنه ترك في الكون طموحات للعقل المخلوق لله والمادة الكونية المخلوقة لله ، وكل يوم يكتشف العقل البشري أشياء ، وهذا الاكتشاف لا يأتي من فراغ ، بل يأتي من أشياء موجودة . إذن : فلو رددت أدق أقضية العلم التي يصل إليها العقل المعاصر ، ونسبتها في الكون لرجعت إلى الأمر البديهي . فلا يوجد صاحب عقل ابتكر أو جاء بحاجة جديدة ، إنما هو أعمل عقله في موجود فاستنبط من مقدمات الموجود قضية معدومة ، ثم أصبحت القضية المعدومة مقدمة معلومة ليستنبط منها من يجيء بعد ذلك . ولذلك فالعلماء عادة قوم يغلبهم طابع التهذيب عندما يقولون : اكتشفنا الأمر الفلاني ، يعني : كأنه كان موجوداً . إن الحق سبحانه وتعالى يعطي لنا فكرة تقرب لنا الفهم ، فنحن عندما كنا نتعلم الهندسة مثلاً عرفنا أن الهندسة مكونة من نظريات ، تبدأ من نظرية " واحد " ، وتنتهي إلى ما لا نهاية ، وحين جاء لنا مدرس ليبرهن لنا على نظرية " مائة " ، استخدم في البرهان على ذلك النظرية التسع والتسعين ، وعندما كان يبرهن على النظرية " التسع والتسعين " استعمل ما قبلها . إذن : فكل برهان على نظرية يستند إلى ما قبلها ، والعقل الواعي المفكر المستنبط هو الذي يرتب المقدمات ويستخلص منها النتائج . وكل شيء في الكون يشترك فيه كل الناس . لكن العقل الذي يرتب ويستنبط يخيل إليه وإلى الناس أنه جاء بجديد ، وهو لم يأت بجديد . بل ولَّد من الموجود جديداً ، مثال ذلك الطفل عندما يولد من أبويه ، هل هما جاءا به من عدم ؟ لا ، بل جاء الولد من تزاوج ، وعندما نسلسل الأمر نصل إلى آدم ، فمَنْ الذي جاء بآدم ؟ إنه الله . إذن : فالبديهيات التي في الكون هي خميرة كل علم تقدمي وهي من صنع الله الذي أتقن كل شيء صنعاً ، وكل نظرية مهما كانت معقدة في الكون منشؤها من الأمر البديهي ، مثال ذلك البخار عندما اكتشفوه وقبل أن يسيّروا به الآلات ماذا حدث ؟ . كان هناك مَنْ يجلس فالتفت فوجد الإناء الذي به الماء يغلي ثم وجد غطاء الإناء يرتفع وينخفض ، وعندما تعرَّف على السرّ ، اكتشف أن كل بخار يستطيع أن يعطي قوة دافعة ، وبذلك بدأ عصر البخار . إذن فهو ذكي ، وقد أخذ اكتشافه من بديهية موجودة في الكون ، فإياك أن تغتر وتقول : إن العقل هو الذي اخترع ، ولكن العقل عمل بالجهد في مطمورات الله في الوجود ، ورتب ورتب ثم أخرج الاكتشاف . لذلك فعندما يبتكر العقل البشري شيئاً جديداً نقول له : أنت لم تبتكر ، بل اكتشفت فقط ، والحق سبحانه وتعالى يترك هذه العملية في الوجود . ويقول : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ … } [ فصلت : 53 ] . والبشرية عندما تكتشف شيئاً جديداً ، نقول لهم : القرآن مسّها وجاء بها ، فيقولون : عجباً هل فعل القرآن ذلك منذ أربعة عشر قرناً ، على الرغم من أنه نزل ليخاطب أمة أمية ، وجاء على لسان رسول أميّ . ونقول : نعم . والآية التي نحن بصددها فيها هذا : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا … } [ النساء : 56 ] . والجلود والأحاسيس شرحناها من قبل ، ونظرية " الحسّ " - كما نعرف - شغلت العلماء الماديين ، وأرادوا أن يعرفوا كيف نحسّ ؟ منهم من قال : نحن نحسّ بالمخ . نقول لهم : لكن هناك مسائل لا تصل للمخ ونحس بها ، بدليل أنه عندما يأتي واحد أمام عيني ويوجه أصبعه ليفتحها ويثقبها فقبلما يصل أصبعه أغلق عيني أي : أن شيئاً لم يصل للمخ حتى أحسّ . وبعض العلماء قال : إن الإحساس يتم عن طريق النخاع الشوكي والحركة العكسية ، ثم انتهوا إلى أن الإحساس إنما ينشأ بشعيرات حسية منبطحة مع الجلد بدليل أنك عندما تأخذ حقنة في العضل ، فالحقنة فيها إبرة ، ويكون الألم مثل لدغة البرغوث يحدث بمجرد ما تنفذ الإبرة من الجلد ، وبعد ذلك لا تحس . إذن : فمركز الإحساس في الإنسان هو الشعيرات الحسية المنبطحة على الجلد ، بدليل أن ربنا أوضح : أنه عندما يحترق الجلد يمتنع الإحساس ، فأنا أبدل لهم الجلد ليستمر الإحساس : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ … } [ النساء : 56 ] أي : صارت محترقة احتراقاً تاماً وتعطلت عن الإحساس بالألم ، آتيهم بجلد آخر لأديم عليهم العذاب لأنه هو الذي سيوصل للنفس الواعية فتتألم ، إذن فالآية مسّت قضية علمية معملية ، لو أن القرآن تعرض لها بصراحة وجاء بصورة في الإحساس تقول : يا بني آدم محلّ الإحساس عندكم الجلد ، لما فهموا شيئاً . لكنه تركها لتنضج في العقول على مهل . { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ … } [ النساء : 56 ] . فتكون علّة التبديل للجلود التي أحرقت بجلود جديدة كي يدوم العذاب ويذيل الحق الآية : { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً } [ النساء : 56 ] والعزيز : هو الذي لا يُغلب ولا تَقدر أن تحتاط من أنه يهزمك أبداً ، فقد يقول كافر : لقد تلذذنا بالمعصية مرة لمدة خمس دقائق ، ومرة لمدة ساعتين فما يضيرني أن يحترق جلدي وتنتهي المسألة ! ! نقول له : لا إن الذي يعذبك لا يُغلب فسوف يديم عليك العذاب بأن يبدل لك الجلد بجلد آخر ، وسبحانه حكيم . فالمسألة ليست مسألة جبروت يستعمله ، لا هو يستعمل جبروته بعدالة . وبعد أن جاء بالعذاب أو بالجزاء المناسب لمن رفضوا الإيمان ، لم ينس المقابل لكي يكون البيان للغايتين : غاية الملتزم وغاية المنحرف . ولذلك يقول الحق بعد ذلك : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } .