Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 85-85)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وما هي الشفاعة الحسنة ؟ الذين من الريف يعرفون مسألة " الشُّفْعَة " في العرف . فيقال : فلان أخذ هذه الأرض بالشفعة . أي أنه بعد أن كان يملك قطعة واحدة من الأرض ، اشترى قطعة الأرض المجاورة لتنضم لأرضه ، فبدلاً من أن تكون له أرض واحدة صارت له أرضان . وعندما يأتي واحد لشراء أرض ما ، فالجار صاحب الأرض المجاورة يقول : أنا أدخل بالشفعة ، أي أنه الأولى بملكية الأرض . إذن فمعنى يشفع ، هو من يقوم بتعدية أثر الموهبة منه إلى غيره من إخوانه المؤمنين ولهذا فإنه يكون له نصيب منها . فالشفاعة الحسنة هي التوسط بالقول في وصول إنسان إلى منفعة دنيوية أو أخروية أو إلى الخلاص من مضرّة وتكون بلا مقابل . إذن فكل واحد عنده موهبة عليه أن يضم نفسه لغير الموهوب ، فبعد أن كان فرداً في ذاته صار شفعاً . ولذلك يقال : فلان سيشفع لي عند فلان ، أي أنه سيضم صوته لصوت المستعين به . والحق سبحانه وتعالى فيما يرويه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله قال لسيدنا داود : إن الرجل ليعمل العمل الواحد أحكِّمه به في الجنة . أي أن رجلاً واحداً يؤدي عملاً ما ، فيعطيه الله فضلاً بأن يقوم بتوزيع الأماكن على الأفراد في الجنة ، وكأنه وكيل في الجنة ، أي أنه لا يأخذ منزلا له فقط ، ولكنه يتصرف في إعطاء المنازل أيضاً ، فتساءل داود : يا رب ومن ذلك ؟ قال سبحانه : مؤمن يسعى في حاجة أخيه يحب أن يقضيها قضيت أو لم تقض . قال صلى الله عليه وسلم : " من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيراً له من اعتكافه عشر سنين ، ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق أبعد مما بين الخافقين " . ذلك لأن العبد الذي سعى في قضاء حاجة أخيه يكون قد أدى حق نعمة الله فيما تفضل به عليه ، ويكون من أثر ذلك أنه لا يسخط أو يحقد غير الواجد للموهبة على ذي الموهبة . وبذلك فسبحانه يزيل الحقد من نفس غير الموهوب على ذي الموهبة فغير الموهوب يقول : إن موهبة فلان تنفعني أنا كذلك ، فيحبّ بقاءها عنده ونماءها لديه . ويقول الحق : { مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا … } [ النساء : 85 ] ثم يأتي الحق بالمقابل ، فهو سبحانه لا يشرع للأخيار فقط ، ولكنه يضع الترغيب للأخيار ويضع الترهيب للأشرار ، فيقول : " ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها " . ولنر المخالفة والفارق بين كلمة " النصيب " وكلمة " الكفل " . كلمة " النصيب " تأتي بمعنى الخير كثيراً . فعندما يقول واحد : أنت لك في مالي نصيب . هذا القول يصلح لأي نسبة من المال . أما كلمة " كفل " فهي جزء على قدر السيئة فقط . وهذا هو فضل من الله ، فمن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، وهذا نصيب كبير . ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا مثلها . وهذه الآية قد جاءت بعد تحريض الرسول للمؤمنين على القتال ، أي أنك يا رسول الله مُطالب بأن تضم لك أناساً يقاتلون معك فتلك شفاعة حسنة سوف ينالون منها نصيباً كبيراً وثواباً جزيلاً . أما قول الحق : { وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا … } [ النساء : 85 ] أي يكون له جزء منها ، أي يصيبه شؤم السيئة ، أما الجزاء الكبير على الحسنة فيدفع إلى إشاعة مواهب الناس لكل الناس . وما دامت مواهب الناس مشاعة لكل الناس فالمجتمع يكون متسانداً لا متعانداً ، ويصير الكل متعاوناً صافي القلب ، فساعة يرى واحد النعمة عند أخيه يقول : " سيأتي يوم يسعى لي فيه خير هذه النعمة " . ولذلك قلنا : إن الذي يحب أن تسرع إليه نعم غيره فليحب النعم عند أصحابها . فإنك أيها المؤمن إن أحببت نعمة عند صاحبها جاءك خيرها وأنت جالس . وإذا ما حُرمت من آثار نعمة وهبها الله لغيرك عليك فراجع قلبك في مسألة حبك للنعمة عنده ، فقد تجد نفسك مصاباً بشيء من الغيرة منها أو كارهاً للنعمة عنده ، فتصير النعمة وكأنها في غيرة على صاحبها ، وتقول للكاره لها : " إنك لن تقربني ولن تنال خيري " . ويختم الحق الآية : { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً } [ النساء : 85 ] جاء هذا القول بعد الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة ، وفي ذلك تنبيه لكل العباد : إياكم أن يظن أحدكم أن هناك شيئاً مهما صغر يفلت من حساب الله ، فلا في الحسنة سيفلت شيء ، ولا في السيئة سيضيع شيء . وأخذت كلمة " مُقيتاً " من العلماء أبحاثاً مستفيضة . فعالم قال في معناها : إن الحق شهيد ، وقال آخر : " إن الحق حسيب " ، وقال ثالث : إن " مقيتاً " معناها " مانح القوت " ورابع قال : " إنه حفيظ " وخامس قال : " إنه رقيب " . ونقول لهم جميعاً : لا داعي للخلاف في هذه المسألة ، فهناك فرق بين تفسير اللفظ بلازم من لوازمه وقد تتعدد اللوازم ، فكل معنى من هذه المعاني قد يكون صحيحاً ، ولكن المعنى الجامع هو الذي يكون من مادة الكلمة ذاتها . و " مُقيت " من " قاته " أي أعطاه القوت ، ولماذا يعطيهم القوت ؟ ليحافظ على حياتهم ، فهو مقيت بمعنى أنه يعطيهم ما يحفظ حياتهم ، ومعناها أيضاً : المحافظ عليهم فهو الحفيظ . وبما أنه سبحانه يعطي القوت ليظل الإنسان حياً ، فهو مشاهد له فلا يغيب المخلوق عن خالقه لحظة ، وبما أنه يعطي القوت للإنسان على قدر حاجته فهو حسيب . وبما أنه يرقب سلوك الإنسان فهو يجازيه . إذن كل هذه المعاني متداخلة ومتلازمة لذلك لا نقول اختلف العلماء في هذا المعنى ، ولكن لنقل إن كل عالم لاحظ ملحظاً في الكلمة ، فالذي لاحظ القوت الأصلي على صواب ، فلا يعطي القوت الأصلي إلا المراقب لعباده دائماً ، فهو شهيد ، ولا يعطي أحداً قوتاً إلا إذا كان قائماً على شأنه فهو حسيب . وسبحانه لا يُقيت الإنسان فقط ولكن يقيت كل خلقه ، فهو يقيت الحيوان ويلهمه أن يأكل صنفاً معيناً من الطعام ولا يأكل الصنف الآخر . إننا إذا رأينا العلماء ينظرون إلى " مقيت " من زوايا مختلفة فهم جميعا على صواب ، سواء من جعلها من القوت أو من الحفظ أو من القدرة أو من المشاهدة أو من الحساب ، وكل واحد إنما نظر إلى لازم كلمة " مقيت " وسبحانه يقيت كل شيء ، فهو يقيت الإنسان والحيوان والجماد والنبات . ونجد علماء النبات يشرحون ذلك فنحن نزرع النبات ، وتمتص جذور النبات العناصر الغذائية من الأرض ، وقبل أن يصبح للنبات جذورٌ ، فهو يأخذ غذاءه من فلقتي الحبة التي تضم الغذاء إلى أن ينبت لها جذر ، وبعد أن يكبر جذر النبات فالفلقتان تصيران إلى ورقتين ، وسبحانه على كل شيء مقيت ، ويقول العلماء من بعد ذلك : إن الغذاء قد امتصه النبات بخاصية الأنابيب الشعرية . أي أن النبات يمتص الغذاء من التربة بواسطة الجذور الرفيعة التي تمتص الماء المذاب فيه عناصر الغذاء . وفتحة الأنبوبة في الأنابيب الشعرية لا تسع إلا مقدار الشعرة ، وعندما توضع في الإناء فالسائل يصعد فيها ويرتفع الماء عن مستوى الحوض ، وعندما تتوازى ضغوط الهواء على مستويات الماء فالماء لا يصعد . ومثال ذلك : عندما نأتي بماء ملون ونضعه في إناء ، ونضع في الإناء الأنابيب الشعرية ، فالسائل الملون يصعد إلى الأنابيب الشعرية ، ولا تأخذ أنبوبة مادة من السائل ، وتترك مادة بل كل الأنابيب تأخذ المادة نفسها . لكن شعيرات النبات تأخذ من الأرض الشيء الصالح لها وتترك الشيء غير الصالح . وهو ما يقول عنه علماء النبات " ذلك هو الانتخاب الطبيعي " . ومعنى الانتخاب هو الاختيار ، والاختيار يقتضي عقلاً يفكر ويرجح ، والنبات لا عقل له ، ولذلك كان يجب أن يقولوا إنه " الانتخاب الإلهي " ، فالطبيعة لا عقل لها ولكن يديرها حكيم له مطلق العلم والحكمة والقيومية . وسبحانه يقول عن ذلك : { يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ الرعد : 4 ] . فالفلفل يأخذ المادة المناسبة للحريفية ، والقصب يأخذ المادة التي تصنع حلاوته ، والرمان يأخذ المادة الحمضية . هذا هو الانتخاب الإلهي . { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً } [ النساء : 85 ] وساعة تسمع { كَانَ ٱللَّهُ . . } [ النساء : 85 ] فإياك أن تتصور أن لـ " كان " هنا ملحظاً في الزمن ، فعندما نقول بالنسبة للبشر " كان زيد غنياً " فزيد من الأغيار وقد يذهب ثراؤه . لكن عندما نقول { كَانَ ٱللَّهُ … } [ النساء : 85 ] فإننا نقول : " كان الله ومازال " ، لأن الذي كان ويتغير هو من تدركه الأغيار . وسبحانه هو الذي يُغَيِّر ولا يَتَغَيَّر ، وموجود منذ الأزل وإلى الأبد . وحين أوضح لنا سبحانه الشفاعة وأمرنا أن يعدي الواحد منا مواهبه إلى غيره فذلك حتى تتساند قدرات المجتمع لأنه يربب الفائد للعبد المؤمن ويرببها للجميع . ويقول الحق بعد ذلك : { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ … } .