Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 40, Ayat: 27-27)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هنا يؤكد موسى على ربوبية الحق سبحانه بعد أنْ هدده فرعون بالقتل { ذَرُونِيۤ أَقْتُلْ مُوسَىٰ … } [ غافر : 26 ] ثم استهزأ بربه { وَلْيَدْعُ رَبَّهُ … } [ غافر : 26 ] لذلك جاء ردّ موسى إِنِّي وفيها تأكيد واستحضار لعبوديته أمام عِزِّ الربوبية التي يستهزئ بها فرعون ، فلما يقُلْ مثلاً : أعوذ بالله من فعلك ، إنما أكد أن الله ربه بل { وَرَبِّكُـمْ } أيضاً . ومعنى { عُذْتُ … } [ غافر : 27 ] لجأتُ إليه وهو القادر على نُصْرتي وحمايتي ، فقوله { إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي … } [ غافر : 27 ] يبين لنا منزلة الاستعاذة بالله ، فالإنسان حين يستعيذ بالله من شيء لا يَقْوَى عليه فقد أفاض وأنصف ، لأنه سلط على مَنْ آذاه وليستْ له قدرة على أنْ يردَّه ، سلَّط عليه مَنْ يقدر على أنْ يفعل . لذلك قال سبحانه : { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } [ النحل : 98 ] . لماذا ؟ لأنك حين تقرأ القرآن تنفعل به ، وتكون معه في حضرة الله يكلمك وأنت تسمع ، وحين تنفعل بالقرآن وتتدبر معانيه تحدث عندك إشراقات ومواجيد ترقى بك ، وهذا كله يغيظ الشيطان فيسارع إليك ليصرفك عن القراءة ، كما يحدث لنا كثيراً في الصلاة مثلاً ، ويشكو الكثيرون منا من الانشغال في الصلاة بسبب وسوسة الشيطان . لكن لا عجبَ في ذلك إذا تأملنا قوله تعالى يحكي لنا موقف الشيطان منا : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الأعراف : 16 ] نعم ، وأيّ صراط أقوم من الصلاة وقراءة القرآن ، لذلك قلنا : إن الشيطان ليس في حاجة لأنْ يذهب إلى الخمارة مثلاً ، إنما يذهب إلى المسجد ليفسد عليك صلاتك ويشغلك عن منهج الهداية ، لذلك أمرك الله بالاستعاذة منه ليكون لك حصناً ووقاية . هنا يقول موسى عليه السلام : إني أعوذ بالله منك يا فرعون وهو أقوى منك وقادر على حمايتي من كيدك ، فهو ربي أي : الذي خلقني وربَّاني وأنا مسئول منه ، فهو أوجدني بقدرته ويصونني بقيوميته ، أَلاَ ترى أن كلَّ صانع يحفظ صنعته ، ويجعل لها ضماناً للصيانة ؟ أليس الخالق سبحانه أَوْلى بأنْ يضمن لي حياتي التي خلقها ؟ بلى بشرط أنْ تقولها : عُذْتُ بِرَبِّي . وكان يكفي أنْ يقول إنِّي عُذْتُ بِرَبِّي فلماذا قتل وَرَبكُمْ ؟ قالوا : ليؤكد على ربوبية ربه عز وجل ، ويؤكد سعادته بهذه الربوبية ، فهو ربي وربُّ الآخرين وربكم جميعاً ليقولوها معه : إنَّا عُذْنا بربنا من فرعون وعمله ، وكأنه يريد أن يستجمع قُوَى الخير والإيمان ويُقوِّي جانبه بالجماعة المؤمنة ، ليكون الدعاء أَدْعَى للقبول وأَوْلى . هذه المسألة تفسر لنا أهمية الجماعة وروح الجماعة في الإسلام ، إننا مثلاً في الصلاة نقرأ بفاتحة الكتاب ، نقول : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] هكذا بالجمع ، فلماذا لم يَقُلْ : إياك أعبد وإياك أستعين . لأن دعاء الجماعة أقوى ، الجماعة تُدخِلك في زمرة الصالحين ، فإذا لم تكُنْ صالحاً فجاور الصالحين لعله ينالك ما ينالهم من الثواب والقبول . لذلك احذر أن تحتقر أهل التقوى وأهل الصلاح ، فلعلَّك تُؤخذ في محضِ الفضل معهم . إذن : دعاء الجماعة أَوْلَى بالقبول من دعاء الفرد ، لذلك كانت صلاة الجماعة تفوق صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة ، أنت ترى التاجر مثلاً يبيع السلعة فيها المعطوبة وفيها السليمة ، فإذا ناقشته وقلتَ له لا آخذ المعطوبة مثلاً يقول لك : هذه صفقة واحدة المعطوبة في السليمة ، كذلك نحن في صلاة الجماعة نداري المعطوبة في السليمة أملاً في أنْ تُقبل الصفقة كلها . فمن أيِّ شيء استعاذ سيدنا موسى ؟ { مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ ٱلْحِسَابِ } [ غافر : 27 ] هكذا بصيغة الجمع وبالوصف { مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ … } [ غافر : 27 ] ولم يصرح باسم خصمه فرعون صاحب القضية ومُدَّعي الألوهية ومهدده بالقتل ، فلماذا ؟ قالوا : لم يُذْكر فرعون في هذا المقام لأمرين : الأول : حتى لا يجعل فرعون في مقابل الله لو قال : إني عُذْتُ بربي من فرعون ، ثم إن فرعون لم يكُنْ وحده ، بل كان معه آخرون على شاكلته ، فأراد أنْ يجمعهم بكلمة تشمل كل متكبر . الأمر الآخر : أن سيدنا موسى هنا يراعي حقَّ التربية ويحفظ لفرعون هذا الجميل فلم يصرح باسمه ، ويكفي أنه داخلٌ ضمن هذا الوصف { مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ ٱلْحِسَابِ } [ غافر : 27 ] . لذلك نجد القرآن الكريم جعل التربية شقيقة الولادة ، يعني الابن في الدم مثل الابن في التربية ، فقال سبحانه : { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ … } [ لقمان : 14 ] ثم خصَّ الأم بالحيثية { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ … } [ لقمان : 14 ] لماذا يذكر القرآنُ هذه الحيثية للأم ؟ قالوا : لأن هذه الحيثية لا يدركها الولد وهو طفل ، في حين يدرك بعد ذلك فضلَ والده فذكَّره الله بفضل أمه لأنه لم يشهده ، ثم يقول سبحانه : { وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } [ الإسراء : 24 ] فِعلَّة الدعاء هنا التربية ، سواء أكانت للأم التي ولدت ، أم للأم التي ربَّتْ ، فمن ربِّي غير ولده كان أهلاً لأنْ يدعي له هذا الدعاء { وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } [ الإسراء : 24 ] . وقوله : { مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ ٱلْحِسَابِ } [ غافر : 27 ] يعني : اجتمعتْ فيه خَصْلتان من خصال الشر ، فهو متكبر يعني قاسي القلب ، وقسوة القلب لا تردعه عن القهر والجبروت ، ثم هو لا يؤمن بالحساب فلا يخاف من القصاص ، ولا يعمل حساباً للعواقب ، ومثل هذا لا أملَ في إصلاحه .