Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 40, Ayat: 2-2)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
مادة نزل وردتْ في القرآن بصيغ عدة : أنزلنا ، نزَّلنا ، تنزيل ، نزل . وكلها تعطي معنى العلو للذي نُزِّل ، وصفة العلو تدل على أن المنزَّل ليس من صُنْع البشر ، وتدل على عظمة المنزَّل ومنزلته ، حتى إنْ كان من جهة الأرض لا من جهة السماء ، كما قال تعالى في الحديد : { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ … } [ الحديد : 25 ] . ومعلوم أن الحديد يُستخرج من الأرض لا ينزل من السماء ، فالمعنى : أنزلناه على أنه هبة العالي للأدنى ، ولا بدَّ أن يكون الأعلى أعظم من الأدنى . ونقول ذلك حتى في الأحكام والقوانين حين نريد أنْ نشرع ونُقنِّن القوانين . لا تتركوا قوانين الأعلى وتأخذوا بقوانين الأدنى ، لأن المقنِّن الأعلى سبحانه غير المقنِّن من البشر ، فمهما بلغ من العلم والحكمة فلن يخلو من هوى ولن يتنزَّه عن غرض ، فإنْ كان من الأغنياء يُقنِّن للرأسمالية ، وإنْ كان فقيراً قنَّن للشيوعية . لذلك يُشترط فيمن يُقنِّن ألاَّ يكون له هوىً ، وألاَّ يكون منتفعاً بما يقنن ، وأنْ يكون محيطاً بالأمور كلها بحيث لا يستدرك عليه ولا ينسى جزئية من جزئيات الموضوع ، وهذه الشروط كلها لا تتوفر إلا في الحق سبحانه ، لذلك لا يجوز لنا أن نترك قانون الله وشرعه ونتحاكم إلى قانون البشر . لذلك تعرَّض الإسلامُ لحملات ضارية وانتقادات من غير المسلمين كان آخرها الضجة التي أثاروها في الفاتيكان على الطلاق في الإسلام ، لأنهم قننوا لأنفسهم بعدم الطلاق ، لكن الطلاق في الإسلام مَنْ شرعه ؟ الله لا البشر . إذن : فهو الصواب وغيره خطأ ، لأنك لا تستطيع أبداً أنْ تديمَ علاقة بين زوجين يكره كل منهما الآخر وهو مأمون عليها وهي مأمونة عليه ؟ كيف تحكم عليَّ أن أعيش مع امرأة لا تثير غرائزي . إذن : شُرِع الطلاق في الإسلام لحكمة ، لأن المشرِّع سبحانه أعلم بطبائع الخَلْق ، ومرتْ الأيام وألجأتهم أقضية الحياة ومشاكل المجتمع لأن يُشرعوا هم أيضاً الطلاق ، ما أباحوه لأن الإسلام أباحه ولا محبةً في دين الله ولا إيماناً بشرع الله ، إنما أباحوه لأن الحياة فرضتْ عليهم قضايا لا تُحلُّ إلا بالطلاق . وهذه المسألة هي التي أجبنا بها حين سُئلنا في سان فرانسيسكو عن قوله تعالى : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ } [ الصف : 8 ] وقال : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } [ التوبة : 33 ] . يقولون : مرَّ على الإسلام أربعة عشر قرناً من الزمان وما يزال أغلب الناس غير مسلمين ، والإسلام ليس هو الدين الغالب بل مُهدَّد ومُحارَب . قلنا : لو تأملتم معنى الآية لعرفتم أن إظهار الدين لا يعني أن يؤمن كل الناس ، إنما يظهر على غيره من الشرائع والقوانين ويضطر غير المسلمين لأنْ يأخذوا بالإسلام في حَلِّ قضاياهم ، وقوله تعالى : { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } [ التوبة : 33 ] { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ } [ التوبة : 32 ] دليلٌ على وجود الكفار والمشركين مع وجود الإسلام . وكلمة الكِتَابِ أي : القرآن ، سماه الله كتاباً لأنه مكتوب ، وقرآناً لأنه مقروء ، أو هو كتاب إيذاناً بأنْ يكتب ، وهو قرآن إيذاناً بأنْ يُقرأ ، والقراءة إما من السطور وإما من الصدور الحافظة ، وسمَّاه وحياً لأنه أُوحِي به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم : { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } [ النجم : 4 ] إذن : لكل تسمية ملحظ . ولما أرادوا جمع القرآن اشترطوا أن تتوافق فيه الصدور والسطور ، فما كتبوا آية واحدة إلا إذا وجدوها مكتوبة في الرقاع وشهد شاهدان بصحتها ، ورحم الله سيدنا الشيخ محمد عبد الله دراز الذي قرن بين هذه المسألة وقوله تعالى : { أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ … } [ البقرة : 282 ] . ثم يقول سبحانه : { مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } [ غافر : 2 ] فهذا الكتاب مُنزَّل من عند الله المتصف بصفات الكمال المطلق ، وله سبحانه طلاقة قدرة وطلاقة حكمة وطلاقة رحمة وطلاقة رحمانية ، وما دام الكتاب جاء ممَّنْ هذه صفاته فلا يمكن أنْ يستدرك عليه ، وما دام لا يستدرك عليه فصدِّقوا الآية : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً … } [ المائدة : 3 ] . لذلك نعجب من الذين ينادون الآن بعصرنة الإسلام ، ونقول لهم : بدل أن تُعصرنوا الإسلام دَيِّنوا العصر . وصفة العَزِيزِ أي : الغالب الذي لا يُغلب ، وما دام أن هذا الكتاب نزَّله عزيز لا يُغلب ، فلا بدَّ لهذا الكتاب أنْ يعلو وأنْ يُنشر وأنْ يسمعه الناس لا يغلبه أحد ، لأن مُنزله عزيز ، ولأن الله تعالى ما كان ليبعث به رسولاً ويتركه أو يخذله ، فمهما عاندوا ومهما تكبروا وجحدوا سيغلب هذا القرآن ، ولن يُغلبَ أبداً في أيِّ مجال من المجالات . وكأن الحق سبحانه يقول للكفار وعبدة الأصنام : خذوا لكم عبرة من واقع الأشياء حولكم ، فمحمد وأتباعه بعد أنْ كانوا مُحاصرين مضطهدين أصبحوا في ازدياد يوماً بعد يوم ، وأرض الإسلام أصبحتْ في ازدياد وزيادة أرض الإسلام نقصٌ من أرض الكفر : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَٱللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [ الرعد : 41 ] . وقال الحق سبحانه وتعالى : { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } [ الحج : 15 ] . يعني : مَنْ كان يشك في نصر الله وتأييده فليبحث له عن مسلك آخر وليأت بحبل يُعلِّقه في السماء ويجعل رقبته فيه ثم ليقطع ، فلينظر هل يُذهِب هذا غيظه ؟ وقد قال الله تعالى في بيان سنته في نصرة رسله وعباده الصالحين : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [ الصافات : 171 - 173 ] . إذن : فالحق سبحانه ما كان ليكبت دينه ، ولا يخذل رسله ، أو يتخلى عن نُصْرة أوليائه . وقوله تعالى : { ٱلْعَلِيمِ } [ غافر : 2 ] تعني : أن عزته سبحانه ليست فتونة بلا رصيد ، إنما هي عزة بعلم ، وعزة بحكمة ، وعزة برحمانية ورحيمية ، فله سبحانه كل صفات الكمال المطلق . ثم يقول سبحانه : { غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ … } .