Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 42, Ayat: 10-10)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الاختلاف هو عدم التقاء الآراء في قضية ما ، وينقسم الجمع إلى فريقين أو أكثر ، كُلٌّ يؤيد رأيه ويعارض رأي الآخر ، ويقابله الوفاق والآراء تختلف إما في نقاش جاد مُثمر يُراد منه الوصول للحقيقة ، وإما جدل ولجاجة لا فائدةَ منها ومِراءٌ بالباطل . لذلك يُعلمنا الحق سبحانه ماذا نفعل حين نختلف ، أنْ نردَّ الأمر والحكم لله ، لذلك لما اختلفوا مثلاً في الروح وسألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ] . كذلك علَّمنا الحق سبحانه أدبَ الخلاف وألاَّ نتعجل في الحكم ، وأن نبحثه بموضوعية ، فقد يكون المختلفون متفقين في واقع الأمر وهم لا يعلمون وجه هذا الاتفاق ، " ففي غزوة الأحزاب بعد أن عادت قريش إلى مكة ، واليهود إلى أماكنهم أخبر الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن اليهود هم سبب هذه الحرب ، وأصل هذه البلوى ، فاذهب إليهم ولا تخلع لباس الحرب ، فذهب رسول الله إلى جيشه العائد من الحرب وقال لهم : " مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة " . يريد الحرب ، فعاد الصحابة وتوجَّهوا إلى بني قريظة ، فدخل عليهم وقت المغرب وهم في الطريق فاختلفوا في صلاة العصر ، فريق يقول يجب أن نصليها الآن قبل فوات وقتها ، وفريق يقول : لا بل نصليها في بني قريظة كما أمر رسول الله . إذن : رأى تعصَّب للزمان ، ورأى تعصَّب للمكان ، فمَنْ تعصَّب للزمان صلى في الطريق ومن تعصَّب للمكان صلى في بني قريظة ، حتى إذا ما التقوْا برسول الله عرضوا عليه هذا الخلاف ، فأقرَّ كلاّ منهم على رأيه ، ولم يعارض هذا ولا ذاك . إذن : كان اختلافاً شكلياً ، وهم لا يدرون أنهم جميعاً على الحق ، وأنهم في وفاق ، إذن : حين نختلف علينا أنْ نردَّ الأمر إلى الله وإلى رسول الله ، وأنْ نكون موضوعيين دون تعصُّب ، هذا في الخلاف بين المؤمنين . كذلك إنْ كان الخلاف مع أهل الكتاب اليهود أو النصارى ، رُدُّوا خلافكم معهم إلى الله ، لأن عندهم كتباً سماوية : التوراة والإنجيل ، وفيها تصديق بمحمد خاتم الرسل ، وفيها بشارة به ، وفيها صفاته وعلاماته ، بدليل أن منهم مَنْ آمن بعد بعثة رسول الله ، فرُدوا خلافكم معهم إلى الله لتقطعوا عليهم طريق اللجج والعناد والخصومة . ومعنى { فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ } [ الشورى : 10 ] وأيضاً إلى رسول الله لأنه نائب عن الله في الأحكام ، وقد أعطاه الله حَقَّ التشريع بدليل قوله تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [ الحشر : 7 ] وهذه مَيزة لم ينَلْها أحدٌ من الرسل قبل رسول الله ، حيث كان عليهم البلاغ فقط ، أما سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد فوّضه ربه في التشريع . لذلك لما قال أحد المجادلين : ما الدليل على أن الصبح ركعتان ، والظهر أربع ، والمغرب ثلاث ؟ قال : الدليل قوله تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [ الحشر : 7 ] . وكوْنك تحكِّم الحق سبحانه في مسألة خلافية وتعرضها على قول الله وقول رسول الله ، هذه الرجعة تُنهي الخلاف وتُنهي المراء ، ولا غضاضةَ على أحد أنْ يحتكم إلى قوة أعلى تلتقي عليها القلوب في صفاء ورضا بحكمه تعالى ، ألا ترى أن الحكم عليك إنْ جاء من بشر مثلك ربما لا تقبله حتى لو كان صواباً ، أما حين يكون الحكم لله فلا غضاضةَ ولا حرج . { ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } [ الشورى : 10 ] { ذَلِكُمُ } اسم اشارة للتعظيم ، فـ { ذا } إشارة ، واللام للبُعْد ، والكاف للخطاب { ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّي } تقولها وأنت فخور بها ، مُعتز بالانتساب إليه سبحانه ، وكأنه شيء عالٍ فوق كل تصوُّر ، والرب قلنا : هو الذي يتولَّى التربية والعطاء ، ومنه الفضل والإنعام ، وعليه أتوكل في كل أمري { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ الشورى : 10 ] أرجع وأعود في الآخرة للحساب والجزاء . وحين أقول { ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّي } [ الشورى : 10 ] فأنا معتز بالربوبية التي تُربي وتعطي ، ومعتز بالألوهية التي تكلف ، لأن التكليف من تمام التربية ، ومقتضى تربيتي أن تكون دنياي سعيدة ، لكن الدنيا موقوتة ومنتهية ، فالتربية الحقة إذن أنْ أربيك لشيء أبقى وأدوم وهي الآخرة التي لا ينقطع نعيمها ولا أغادرها بموت ولا تغادرني بفناء . البعض يقول : التربية هنا للمادة ، نقول : للمادة وللقيم والروح أيضاً ، لذلك يقول تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] ما معنى يحييكم هنا ألم يخاطبهم وهم أحياء يسمعون ؟ إذن : المراد حياة أخرى غير حياة المادة ، المراد حياة القيم والروح ، الحياة الخالدة التي لا تفوتك ولا تفوتها . لذلك يُسمَّى المنهج الذي يمنحك هذه الحياة روحاً قال تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] نعم روحاً ، تعطيك الحياة الأبدية أما الروح الأولى فتعطيك فقط الحياة الدنيا ، ويُسمى كذلك الملك الذي ينزل بالمنهج روحاًَ : { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [ الشعراء : 193 ] . إذن : نفهم أن الحياة المطلوبة ليستْ هي الحياة الدنيا ، إنما الدنيا وسيلة وأداة مُوصِّلة إلى غاية أفضل منها ، ولكي أصل إلى هذه الغاية ينبغي عليَّ أن أستقيم على منهج مَنْ سيعطيني هذه الحياة . إذن { ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّي } [ الشورى : 10 ] جمعت بين لفظ الألوهية والعبادة والتكليف وبين لفظ الربوبية التي تُربِّي وتعطي وتمنح . وتأمل آداء القرآن في مسألة التوكل عَلَيْهِ تَوكَّلْتُ أهل اللغة يسمون هذا الأسلوب أسلوبَ قصر بتقديم الجار والمجرور عَليْه مُقدَّم على الفعل توكَّلْتُ وهذا يفيد القصر والحصر ، فتوكّلي على الله لا على سواه على الله فحسب ، أما لو قلت : توكلت على الله يجوز أنْ تزيد عليها : وعلى فلان . فأسلوب القصر يقصر التوكل على الله وحده . قالوا : والتوكل على الله رصيدُ مَن فقد الأسباب وخرج من حَوْله وقوته إلى قوة ربه وخالقه لأن الله تعالى جعل لكل شيء أسباباً ، فإذا عزَّتْ الأسباب نلجأ إلى المسبِّب سبحانه : { أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [ النمل : 62 ] . والمضطر هو الذي استنفد كل الأسباب المتاحة ، وعندها لا يُسلِم نفسه للأحداث ولا ييأس ، إنما يقول : إن لي رباً فوق الأسباب ، فهو خالقها ومسبِّبها ولن يتخلى عني حين ألجأ إليه . وسبق أن ذكرنا لكم قصة سيدنا موسى عليه السلام لما أدركه فرعون وجنوده وحاصروهم عند شاطئ البحر ، حتى قال أصحاب موسى { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [ الشعراء : 61 ] فواقع الأحداث أن البحر أمامهم والعدو خلفهم ولا مفرّ ، لكن لموسى مع ربه حسابات أخرى ، فقال رداً عليهم : { قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] . وهذا هو التوكل الذي يعتمد على الثقة بالله ، توكل المضطر الذي عزَّتْ عليه أسبابه ، ولم يَبْقَ له إلا أنْ يلجأ إلى الله ، لذلك جاء الجواب من الحق سبحانه معجزةً خالدة باهرة : { أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ ٱلآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلآخَرِينَ } [ الشعراء : 63 - 66 ] . كذلك في { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ الشورى : 10 ] أسلوب قصر بتقديم الجار والمجرور على الفعل يعني : أرجع إليه وحده لا إلى أحد سواه . وتلحظ على الأسلوب هنا أن التوكل جاء بصيغة الماضي { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } [ الشورى : 10 ] أما الإنابة فجاءت بصيغة المضارع { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ الشورى : 10 ] هذه الدقة في التعبير ، لأن المتكلم بهذا الكلام هو الله . فطبيعي أن تجد هذه الحبكة والدقة اللغوية ، ذلك لأن التوكل عقيدة راسخة من أول الأمر وقبل أنْ تتكلم في التوكل ، فهو ناشئ أولاً وموجود ، أما الإنابة إليه والرجوع فيكون وقت الحدث في المستقبل حينما نرجع إليه سبحانه . ثم يتحدث عن حيثية أخرى من حيثيات قدرته تعالى وأنه هو الولي الحق : { فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَعَلَ لَكُم … } .