Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 43, Ayat: 51-51)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هنا يشعر فرعون بالخطر ، وتهتز مكانته أمام قومه ، يشعر أن موسى يسحب البساط من تحت قدميه حيث تتجه إليه الأنظار خاصة بعد حادثة السحرة الذين آمنوا بربِّ هارون وموسى ولم ينتظروا إذناً من فرعون . وبعد أنْ نزل بهم القحط ، وأصابهم الجَدْب حتى يئسوا فتوجَّهوا إلى موسى وطلبوا منه كشْف ما هم فيه ، لذلك نرى فرعون يحاول أنْ يعيد مكانته ويُحسِّن صورته أمام قومه . { وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ } [ الزخرف : 51 ] بماذا نادى مُناديه ؟ { قَالَ يٰقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الزخرف : 51 ] يعني : انتبهوا إلى مكانتي ومُلْكي وقدرتي عليكم ولا تهتموا بأمر موسى ، فأنا لا أزال مَلِك مصر ، والأنهار تجري من تحتي . يعني : لا أزال وليَّ نعمتكم . { أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } لكن نلاحظ في ندائه هذا أنه لم يقُلْ شيئاً عن ألوهيته . ولم يقُلْ : أنا ربكم الأعلى فقد تنازل عن هذه الشعارات التي لم يَعُدْ لها موضع بعد ما حدث مع موسى . ثم تأمل صيغة النداء { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ } [ الزخرف : 50 ] بهذا الاستفهام التقريري ، يعني : قُولوا لي ألم أزل ملكاً عليكم ، ولم يأت مثلاً بأسلوب الخبر : أنا ملك مصر . إذن : يتحدثُ فرعون الآن من موقف الضعف ، نعم لأنه كان يقول { فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [ النازعات : 24 ] والآن يقول : { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ } [ الزخرف : 51 ] . كلمة { مُلْكُ } [ الزخرف : 51 ] مادتها م ل ك ، نلاحظ أن الميم تأتي مرة بالكسر ، ومرة بالفتح ، ومرة بالضم ، فالميم المكسورة مِلك . يعني : كل ما تمتلكه ولو حتى اللباس الذي تلبسه يسمى مِلك . ومُلْك بالضم تعني الإدارة والسيطرة على مَنْ له مِلك . يعني : يملك مَنْ يملك ، ومَلك بالفتح يعني الإرادة والاختيار ، كما في قوله تعالى : { مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } [ طه : 87 ] أي : بإرادتنا . وفي اسم الفاعل نقول ملك ومالك ، مالك تقال لكل منا يُسمَّى مالك ، حتى لو كان يملك مجرد ملابسه . أما ملك فلا تُقال إلا لمَنْ يملك ويتحكم في المالك . لكن حين نقرأ مثلاً في سورة الفاتحة : { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [ الفاتحة : 4 ] ولم يقُلْ مَلِك ، صحيح هي في إحدى القراءات { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } لكن الأشهر مَالِك ، فما الحكمة أنْ يعدل عن اللفظ الأقوى إلى الأقل منه ؟ قالوا : اختار الحق سبحانه لفظ مالك ليقول أنه سبحانه مالكٌ ليوم القيامة ، وغيره يملك الأرض وما عليها ، فقوله { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [ الفاتحة : 4 ] يعني : غيره لا يملك هذا اليوم ، فهي لله وحده ، لذلك قال : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] . هكذا بالقصر عليه سبحانه دون غيره . إذن : لفظة مالك هي المطلوبة هنا ، وهي التي تؤدي المعنى المراد ، فهي الأدلُّ على المعنى وإنْ كانت أدْنى من ملك . كما قلنا مثلاً في كلمة كبير و أكبر ، أكبر : أفعل تفضيل من كبير فهي أقوى ، ومع ذلك في نداء الصلاة نقول : الله أكبر وليس في أسماء الله أكبر ، بل من أسمائه سبحانه الكبير ، فلماذا عدل عن الكبير إلى أكبر ؟ قالوا : قال الله أكبر لحكمة ، هي أنَّ الأقلّ هنا له موضع ، لأنك حين تدعو الناس إلى الصلاة تُخرجهم من عمل وسَعْي مشروع هو قوام حياة الناس ومعايشهم ومصالح الناس وأعمالهم ليس بالشيء التافه الذي لا قيمةَ له في دين الله ، إنما هو من الأمور المطلوبة للشرع . فهو إذن مهم وكبير ، لكن إذا جاء وقت الصلاة فاعلم أن الله أكبر . يعني : أكبر من العمل ومن السَّعْي . وهذه المسألة بيَّنها لنا الحق سبحانه في سورة الجمعة : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ } [ الجمعة : 9 ] ثم بعد انقضاء الصلاة قال : { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } [ الجمعة : 10 ] . إذن : أخذك للصلاة من العمل ، ثم أعادك إليه مرة أخرى ، لأن به يتم إعمار الأرض وقضاء مصالح الخَلْق . إذن : أكبر هي الأنسب في أداء المعنى المراد . قوله : { وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ } [ الزخرف : 51 ] فرعون لم يُنادِ هو ، إنما أمر مَنْ ينادي في القوم بهذا النداء ، فلما كان النداء بأمره نسب إليه ، وقوله { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ } [ الزخرف : 51 ] يعني : القطر كله لا العاصمة ، كما نقول نحن اليوم مصر على القاهرة ، فمصر التي ملكها فرعون كانت من الأسكندرية إلى أسوان . ومصر عَلَم على هذه البقعة ، وهي مُكوَّنة من ثلاثة أحرف . أولها : كسرة ، ووسطها ساكن والسكون يعطي خفَّة في النطق ، فهي اسم سهل في النطق ، وجاء على أقلِّ صيغ تكوين الاسم في اللغة ، لأن الاسم في العربية أقلُّه ثلاثة أحرف ، وأكثره خمسة إذا كان مُجرداً من أحرف الزيادة . والمتأمل يجد أن مكةَ وهي بلدُ الله الحرام ومحلُّ بيته المقدس ذُكرَتْ في كتابه الكريم مرتين : { وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ } [ الفتح : 24 ] . وجاءتْ بلفظ بكة في قوله تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 96 ] . أما مصر فذكرها الحق سبحانه في كتابه خمس مرات : { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ … } [ الزخرف : 51 ] وفي : { وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ } [ يوسف : 21 ] وفي { ٱدْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ } [ يوسف : 99 ] وفي { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً } [ يونس : 87 ] وفي { ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } [ البقرة : 61 ] . وجاءت مصر في الآية الأخيرة هكذا بتنوين الفتح . وقال المفسرون : يعني أيَّ مصر من الأمصار يكون فيه ما تريدون ، ولو اعتمدنا هذا التفسير فمصر في هذه الحالة داخلة فيه لأنها مصرٌ من الأمصار . وقوله : { وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ } [ الزخرف : 51 ] كلمة { مِن تَحْتِيۤ } [ الزخرف : 51 ] تدل على التمكُّن والسيطرة ، وبالفعل كانت قصوره على النهر مباشرة وكأن النهر يمرُّ من تحتها . وَجَمَع الأنهار ، مع أننا نعرف أن في مصر نهراً واحداً هو نهر النيل ، وأنه يتفرع إلى فرعين دمياط ورشيد ، فلماذا قال { وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ } [ الزخرف : 51 ] . قالوا : كانت على أيام الفراعنة خمسة أنهار ، أي : أنهم فرَّعوا من النهر خمسة فروع ليزيدوا من الشواطئ ، وبهذا كان لديهم عشرة شواطئ تُبنى عليها قصورهم . وأذكر في هذا المقام أنه كان لنا شيخٌ فاضل اسمه الشيخ عمر العمروسي من طنطا الجزيرة ، وكنت أجلس إليه وأستفيد من علمه ، ومعي الشيخ سيد شرف والدكتور ياسين عبد الغفار . وفي يوم من الأيام سألني ، وهو يعرف أنني في الأزهر فقال لي : يا شعراوي ، ماذا فعلتُم في مسألة : { وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ } [ الزخرف : 51 ] . قلتُ له : في قراءة التاريخ وجدنا أن مصر في أيام الفراعنة كان بها خمسة أنهار ، نهر اسمه الملك لأن على شاطئه قصر الملك ، ونهر اسمه دمياط ، ونهر اسمه تنِّيس والعجيب أن منها نهراً يسمى طولون ، ونحن نعرف أحمد بن طولون وكان في القرن التاسع الميلادي فكيف سُمِّي باسمه ، وبعد البحث عرفنا أن ابن طولون هو الذي ردم هذا الفرع من النهر فسُمِّي باسمه . والنهر الخامس كان يسمى الخليج . إذن : زادوا من تفريعات النهر الرئيسي لتزداد فُرَص البناء المطلّ على النهر ، وهذا إنْ دَلَّ فإنما يدلُّ على ترف الحياة حين ذاك . أما الشيخ عمر فكان له في تفسير الأنهار رأيٌ آخر ، قال : اسمع يا ابني أنت وهو ، الفراعنة جعلوا مصر على هيئة نموذج للجنة ، فجعلوا بها أربعة أنهار . واقرأوا القرآن : { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } [ محمد : 15 ] . لكن من أين عرف الفراعنةُ هذه الصورة عن الجنة فحاكوها على أرض مصر ؟ قالوا : لأنهم كانوا يسيرون في أمور حياتهم وفي سياستهم خلف الكهنة ، والكهنة كانوا على علم ، وقرأوا الكتب السماوية السابقة . حتى أنهم قالوا : إن العلوم التي عرفها الفراعنة وبنوا بها الأهرامات وأبا الهول والمعابد الموجودة الآن والتي لم نصل بعد تطور العلوم إلى أسرار بنائها ، وعملية تحنيط الموتى وغيرها من الأسرار عرفوه من الكهنة . وما دامت من الكهنة فمصدرها وَحْي السماء ، بدليل أنه لما انتهى عصر الكهنة ولم يَعُدْ لهم وجود لم نجد لهذه العلوم أثراً حتى الآن . وأذكر أنني في أثناء تولِّي المهندس حسب الله الكفراوي اقترحتًُ عليه إعادة حفر هذه الأنهار ، بحيث تلتقي كلها عند القناطر الخيرية ، ونزيد مساحة الشاطئ عندنا ، واقترحتُ عليه لحلِّ أزمة البناء ، وبدلاً من البناء على الأرض الزراعية أن نبني المساكن والمرافق الحكومية فوق فروع التُّرع والرياحات ، لأنها تحتل مساحات واسعة . ومعظمها عليه طرق من اليمين ومن الشمال ، ويمكن أنْ نقيمَ أعمدة مسلَّحة على هذه الرياحات ، ونبني فوقها كُلَّ مؤسسات الدولة بدل التكدُّس في العاصمة ، فوعدني بدراسة هذه المقترحات لكن لم يُنفذ منها شيء . المفسرون يقولون في { وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ } [ الزخرف : 51 ] أن الأنهار كانت تجري من تحت قصوره بالفعل ، قالوا : حتى أنه جعل من تحت سريره الذي ينام عليه مجرى مائياً كالنهر .