Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 44, Ayat: 38-39)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يريد الحق سبحانه أنْ يلفت الأنظار إلى قضية كونية تستوعب الزمن كله في الماضي وفي الحاضر ، هذه القضية هي صفة الثبات في خَلْق السماوات والأرض ، فهي منذ خلقها الله تعالى تسير على نظام مُحكم لا يتخلَّف ولا يتبدَّل ولا يتغير . هذا الثبات يعني أنها خُلِقَتْ على الحق وبالحق ، فالحق هو الثابت أما الباطل فيتغير ، لذلك قلنا : لو نظرتَ إلى شاهد الزور أمام القاضي لا بدَّ أنْ تتضارب أقواله ، ويظلّ المحقق يحاوره حتى يُوقعه في تناقض ويكشف الزُّور الذي يحاول أنْ يلبسه ثوب الحق . ويأتي التناقض في أقواله لأنه يستوحي باطلاً من نسج خياله ، أما الذي يستوحي الحق وينطق به ، فإنَّ أقواله لا تتغير ما دام متمسكاً بالحق ، فالحق ثابت وهو الواقع ، فيمن أين يأتي التناقض ؟ وللمحققين طرق وأساليب يكشفون بها الزور ، ويصلون بها إلى الحق ، لذلك قالوا : إنْ كنتَ كذوباً فكُنْ ذكوراً . لكن لا بدَّ في مرة من المرات أنْ تخونك الذاكرة ، ولا بدَّ أنْ ينتصر لسانُ الحق على لسان الباطل . وأذكر عندنا في دقادوس أحد المزارعين وكان رجلاً فشاراً ، وفي مرة كنَّا عائدين من البندر ميت غمر وكان صاحبنا هذا يحكي بعض قصصه ، فقال : حدث هذا في ليلة العيد الصغير والدنيا قمر ضهر . سبحان الله ، كيف يكون القمر ظهراً في ليلة العيد الصغير ؟ وحتى الناس العامة يقولون في أمثالهم : الكذب ملوش رجلين ، نعم . الحق هنا يقول : { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـٰعِبِينَ } [ الدخان : 38 ] إذن : خلقناهما بالجد لا باللعب ، وبالحق لا بالباطل ، وفي آية بعدها قال : { مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } [ الدخان : 39 ] وهذا الثبات دلَّ على الدقة في الخَلْق ، وأنها خُلِقت بعناية وهندسة دقيقة محكمة ، وبقوانين لا تتعارض منذ خلقها الله وإلى قيام الساعة . تأمل مثلاً الشمس في مشرقها وفي مغربها ، وفي حركتها وسرعتها بالنسبة للأرض ، تأمل القمر وما يحدث من ظاهرتي الكسوف ، كل هذه الآيات تحدث بدقة متناهية وموازينَ لا تتخلَّف أبداً ولا تتعارض ، وهاتِ لي أيَّ آلة بشرية تعمل وتظل على الدقة طوال الوقت . والذي خلق السماوات والأرض على نظام دقيق لا يتعارض خَلْقها لغاية ، هذه الغاية هي هي منذ آدم عليه السلام وإلى آخر الدنيا . قلنا { إِلاَّ بِٱلْحَقِّ … } [ الدخان : 39 ] الشيء الثابت الذي لا يتغير ، ويقول سبحانه : { وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ * وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ } [ الرحمن : 7 - 9 ] . في هذه الآية إشارة لطيفة من الحق سبحانه . يقول : انظروا إلى السماء وما فيها من كواكب وأجرام ، هل رأيتم فيها خللاً أو تعارضاً ؟ أبداً لأنها مخلوقة بالحق وبالميزان وبالدقَّة كذلك ، إنْ أردتم أنْ تعتدل أمور حياتكم وتستقيم ، فخذوا بميزان الحق في كلِّ حياتكم ، وعندها لن تجدوا في المجتمع تناقضاً ولا تصادماً . ولأن الحق هو الثابت فهو الباقي وهو الأعلى لذلك قالوا : الحق أبلج والباطل لجلج ، والحق لا ينطمس أبداً وإنْ علا الباطل عليه فلحين ، فالحق سبحانه يجعل للباطل جولة يعلو فيها حتى يعضّ الناس ويُشعرهم بأهمية الحق . فكأن الباطل نفسه جنديّ من جنود الحق ، والكفر جندي من جنود الإيمان ، ولو لم يذُقْ الناسُ بطشَ الباطل وقسوته ما عرفوا لذة الحق ، لذلك لما جاء الإيمان ما أسرع إليه إلا أشدّ الناس معاناة من الكفر . وقوله : { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الدخان : 39 ] لا يعلمون هذه الحقائق لأنهم مُعرضون عن آيات الله في الكون ، مُعرضون عن التأمل ، كما قال سبحانه : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] .