Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 45, Ayat: 28-28)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أي : يوم القيامة ترى كل أمة جاثية ، من الفعل جثا جثواً أي : برك على ركبتيه ، أو قام على أطراف أصابعه ، وهذا وضْع الخائف الخاضع الذليل ، ومنه قوله تعالى : { ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً } [ مريم : 68 ] . وقريب منه الفعل جثم جثوماً أي : لزم مكانه أو لصق بالأرض ، ومنه قوله تعالى : { فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ هود : 94 ] . إذن : فالموقف موقف عصيب ، موقف رعب وهَوْل وهلع بحيث لا يتمكن الناسُ من القعود على مقاعدهم فيقعدون على رُكَبهم ، فإنْ اشتدَّ الهول وقفوا على أطراف أصابعهم ، وهي وقفة مَنْ ينتظر الخطر والهول ، أما القعود الطبيعي فيُمكِّن الإنسان مقعدته من الأرض ويكون في حال الاطمئنان . وفرْقٌ بين القعود والجلوس وإن كانت المحصلة واحدة ، إلا أن القعود يكون بعد الوقوف . نقول : كان قائماً فقعد ، أما الجلوس فيكون من حال الاضطجاع . كان مضطجعاً فجلس . إذن : هنا مسألة فلسفية : القعود يكون من وضع أعلى وهو القيام ، والجلوس من وضع أدْنى وهو الاضطجاع ، والجلوس أو القعود يضمن للإنسان الراحة حيث يكون معظم جسمه على الأرض فيرتاح على خلاف القائم مثلاً فتحمله قدماه . لذلك إذا وقفتَ مدة طويلة تتعب وتبادل بين قدميك في الوقوف ، ثم يزيد الحِمْل على القدمين إنْ أضفت إلى القيام المشي ، ثم يزيد إذا أضفتَ على المشي شيئاً تحمله ، وهكذا . فإذا تعب الإنسانُ فأول شيء يضع الحِملَ الذى يحمله ليخفَ الحمل على القدمين ، ثم يتوقف عن المشي ليقلّل المجهود ، ثم يقعد ، وبعد ذلك يضطجع فيلقي بكل جسمه على الأرض ، وهذا الوضع يضمن منتهى الراحة للبدن . لكن هذا التصوير القرآني في جاثية أو جاثمة لا يدل على الراحة ، إنما يدل على الخضوع والذلَة والانكسار وشدة الخوف الذي يجعل الإنسان والعياذ بالله يلتصق بالأرض ، أو يجثو على ركبتيه من شدة الخوف . فالحق سبحانه يُصوِّر هذا الموقف تصويراً لفظياً يُشعرك بفظاعة الموقف وشدة كربه ، ولك أنت أنْ تتخيل الموقف ، وأنْ تأخذه تجربة مررت بها بالفعل في موقف رهيب ينشغل فيه كل امرىء بنفسه . فالقيامة قامت ، قامت يعني : لن تقعد والأمة جاثية ، الكل المؤمن والكافر ، الكل جَاثٍ ينتظر ما سيحدث ، لا أحدَ هنا فوق القانون مفيش جستنة فالفزع والهول يَغشى الجميع ، والكل ينتظر كلمة الحق . { كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا … } [ الجاثية : 28 ] فنسب الكتاب إلى الأمة ، لذلك وقف المستشرقون عند هذه الآية يعترضون ، لأن الحق سبحانه يقول في آية أخرى : { هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ … } [ الجاثية : 29 ] . فمرة أسند الكتاب إلى الأمة ، ومرة أسنده إليه سبحانه ، ولو فهموا عن الله ما وجدوا في ذلك وجهاً للاعتراض . فمعنى كتابنا أي : الذي طلبنا من الحفظة أنْ يكتبوه ليكون حجةً على صاحبه يوم القيامة ، فنقول له : { ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإسراء : 14 ] . وهو أيضاً كتابهم أي الذي كُتِب عليهم فيه ، وسجّل فيه أعمالهم ، إذن : لكل لفظ معناه ودلالته ، ومعلوم في أسلوب القرآن أنه يستعمل اللفظ هنا بمعنى وهناك بمعنى آخر . والقرآن مُجمله يحتاج في فهمه إلى تأمل وتدبّر وعلم بأسباب النزول وملابسات الآيات : اقرأ مثلاً قول الله تعالى : { وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ … } [ النساء : 5 ] السّفيه : هو الذي لا يحسن التصرف في ماله ، لذلك لم يجعل له الشارع مالاً ، إنما المال في حال السَّفه مِلْك لوليه . لذلك قال { أَمْوَالَكُمُ … } [ النساء : 5 ] مع أنها من حَقِّ هذا السَّفيه ، لأن المؤمنين تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم . إذن : نأخذ مال السفيه ونحافظ له عليه حتى نأنس منه رُشداً فندفع إليه ماله ليتصرف هو فيه ، لذلك قال تعالى في إعادته : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ … } [ النساء : 6 ] ونسبها إليهم لأنها صارتْ ملكاً لهم ، ولهم حرية التصرف فيها . وقوله سبحانه : { ٱلْيَوْمَ … } [ الجاثية : 28 ] أي : يوم القيامة { تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية : 28 ] فالجزاء من جنس العمل .