Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 47, Ayat: 4-4)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ … } [ محمد : 4 ] أي : في ساحة القتال ، ودارتْ بينكما رحَى الحرب { فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ … } [ محمد : 4 ] المصدر ضرب بمعنى : اضربوا رقابهم . والمراد : القتل سواء بضرب الرقاب أو غيره ، لكن ذكر ضرب الرقاب لأنه الآكد في القتل { حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ … } [ محمد : 4 ] يعني : أذهبتم حركتهم وأضعفتموهم عن المقاومة ، ومادة ثخن هي نفسها تخن ، أي : تماسك وصار ثقيلاً لا يتحرك . نفهم هذا المعنى حينما نتأمل مثلاً ربة البيت وهي تطبح أرزاً باللبن أو بصارة أو تغلي العسل لتصنع منه المربى ، فمع الغليان يتبخر الماء وتبقى مادة تخينة ثقيلة ، لذلك لا تتحرك مع الغليان ، وتكون حرارتها شديدة ، نقول : ثخن الشيء أو تخن . { فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ … } [ محمد : 4 ] يعني : قيّدوهم واربطوهم بالسلاسل والحبال ، وأحكموا قيدهم ليكونوا أسرى في أيديكم ولا يفروا . وهذا يعني أنك إذا تمكنتَ منه لا تتركه { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً … } [ محمد : 4 ] . إما أنْ تُطلقوهم وتُسرحوهم مناً بلا مقابل أو فداءً أي : تأخذون منهم الفدية . لكن متى ؟ تطلقون سراحهم بلا مقابل في حالة ما إذا تركوا أسرانا عندهم بلا مقابل ، وتأخذون الفدية إذا طلبوا هم أخْذ فدية لأسرانا عندهم . وهذه يسمونها المعاملة بالمثل ، وهي ما انتهتْ إليه الأمم المتحدة الآن في مثل هذا الموقف . وقوله سبحانه : { حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا … } [ محمد : 4 ] الحرب هنا مجاز عن أصحابها وأهلها المشتركين فيها ، فالمعنى : افعلوا ذلك حتى تقف رَحَى الحرب ، ومعنى { أَوْزَارَهَا … } [ محمد : 4 ] أي : يضعوا أثقال الحرب ، فالحرب ثِقَل على أهلها ومشقة . لذلك قال الله فيها : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ … } [ البقرة : 216 ] نعم فأنت في الحرب مُعرَّض لأنْ تفقد مالك ، ولأنْ تفقد أهلك ، ولأن تفقد حياتك كلها إلى جانب ما فيها من متاعب ومشاق الكَرِّ والفَرِّ والضَّرْب والجَرْح … إلخ . { وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ … } [ محمد : 4 ] غلبهم وانتقم منهم بقدرته ودون قتال منكم ، فهذا أمر هيِّن على الله ، كما وقع للأمم السابقة أهلكهم الله بعذاب من عنده وببأسه الذي لا يُردُّ عن القوم الكافرين ، فهذه ليستْ عجيبة ، بل واقع يشهد به التاريخ . واقرأ : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا … } [ العنكبوت : 40 ] . إذن : لماذا شُرع القتال وهو مكروه وفيه مشقة ؟ قال تعالى : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } [ التوبة : 14 ] . فشرع القتال لإظهار قوة المؤمنين ، ثم لاختبار إيمانهم وثباتهم على الحق ، وتمييز المؤمنين من المنافقين { وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ … } [ محمد : 4 ] . أي : يبلو المؤمنين بالكافرين والكافرين بالمؤمنين ، ليمحص إيمان المؤمن لأنه صاحبُ رسالة وصاحبُ منهج ، وسيحمل مسئولية الدعوة يسيح بها في كل أنحاء الأرض ، فكان لابُدَّ من تمحيصه ليظهر الغَثَّ والثمين . مَنْ سيصبر على آلام الحرب ويصمد ولا يفر ، مَنْ سيضحي بماله ونفسه ، والله حين يختبر يختبر ، لا ليعرف هو سبحانه ، فهو يعلم بكل شيء لكن لنعرف نحن ، لتظهر ميْزة هذه الأمة وميْزة هذه الرسالة ، وعظمة هذا النبي الخاتم الذي بُعِثَ للناس كافّة في كل زمان وفي كل مكان . ولا بد أنْ يكون أتباعه على مستوى هذه المسئولية وأهلاً لتحمُّل أعباء الرسالة بعد سيدنا رسول الله صلى الله عليه سلم . ولذلك رُوي أن سيدنا مصعب بن عمير كان فتى قريش المدلل ، وكان يغدو ويروح عدة مرات ، كلَّ مرة بثوب جديد تفوح منه رائحة العطر ألواناً ، فلما أسلم تغيَّر حاله ، وأرسله رسول الله إلى المدينة ليعلم الناس ، فارتدى الثياب الخشنة ، وزهد فيما كان فيه من نعيم الدنيا . فلما علمتْ أمه بحاله حزنتْ عليه وأضربتْ عن الطعام وجلست في حَرِّ الشمس لتثني ابنها عما هو فيه وتعيده إلى دين الآباء والأجداد ، فلما عَلِمَ مصعبٌ بصنيع أمه قال لهم قولوا لأمي : والله لو كان لها مائة نفس خرجتْ نفساً نفساً على أنْ أترك هذا الدين ما تركته ، ودعوها فإنْ عضَّها الجوع أكلتْ ، وإن أحرقتها حرارة الشمس استظلت . وأقام مصعب بالمدينة حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه يلبس جلد كبش ، فقال : " انظروا ما فعل الإيمان بصاحبكم " . إذن : الحرب في الإسلام لحكمة ، فهي مثل النار التي تنفي خبث الذهب والحديد فيصير صلباً ، لذلك أعدَّ الله هذه الأمة لتكون أمة قتال وشجاعة حتى قبل بعثته صلى الله عليه وسلم . فلما اضطر سيدنا رسول الله للحرب لم يدرب جنوداً ، ولم يفتح كلية حربية ، إنما وجد رجالاً متمرسين في فنون القتال ، لأن الحروب التي كانت تنشب بين القبائل وتستمر زمناً يصل إلى أربعين سنة جعلتْ من هذه الأمة جيشاً على أُهْبة الاستعداد ، فكانوا كلما سمعوا هيعة طاروا إليها . ثم إنها كانت أمة بدوية تعيش على الترحال ، بيوتهم على ظهور الجمال يتبعون مساقط الأمطار ومنابت العُشْب ، وكأن الله تعالى كان يُعدهم لحمل هذه الرسالة . { وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 4 ] الذين قُتِلوا في سبيل الله هم الشهداء { فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 4 ] لن يبطلها بل يُوفيهم أجورهم ويُثيبهم عليها ، لأن الشهيد وهب حياته لله وضحى بأغلى ما يملك فى سبيل الله ، لذلك يجازيه بما لا يخطر على باله من الإكرام والتفضيل . يجازيه بقاعدة { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ … } [ النساء : 86 ] فلأنه جاد بنفسه في سبيل الله يُبرئه الله من الموت مرة أخرى إذن : حياته موصولة بحياة الآخرة ، فالشهيد بعد أنْ يقتل في الدنيا يصير حياً عند الله إلى أنْ يُبعث بهذه الحياة في الآخرة . وهذا المعنى تنبه إليه الشاعر العربي وهو يمدح حمزة سيد الشهداء فقال : @ أحْمَزَةَ عَمّ المصْطَفى وسَيّد الشُّهَداء أَجمعهِم طُرّا وَحَسْبُكَ مِنْ تِلكَ الشَّهادةِ عصْمةٌ مِنَ الموت في وَصْل الحياتيْنِ بالأُخْرى @@ لذلك الذين يعترضون على حياة الشهيد ويقولون : هل لو فتحنا القبر على شهيد سنجده حياً ؟ لا ستجده ميتاً ، لكن هذه نظرة ضيقة لمسألة الحياة والموت ، ولتريح نفسك اقرأ : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] . وتأمل كلمة { عِندَ رَبِّهِمْ … } [ آل عمران : 169 ] ولم يقل عندكم : إنما عند ربهم أحياء بحياة لا يعلمها إلا هو سبحانه ، فهذه من الغيبيات التي يجب التسليم بها ، فهو حَيٌّ عند ربه وإنْ كان ميتاً عندكم . ثم في قوله : { يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] دليل آخر على حياته ، لأن الرزق من أسباب استبقاء الحياة .