Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 26-26)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فهل كان التحريم مدته أربعون عاما ؟ أو أنه قال : " إنها مُحرّمة عليهم " وانتهى الأمر لأنهم تَأَبّوا على أن يدخلوها ؟ . ولذلك فكل الذين قالوا : " لن ندخلها أبداً ماداموا فيها " لم يعش منهم أحد ليدخل هذه الأرض . وبعد ذلك صدر الحكم الآتي : { أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ } فهل هذا القول هو استئناف للقول السابق فيكون ظرفاً لـ " مُحرّمة " . أو هو حكم منفصل ؟ . تصح هذه ، وتصح تلك . والتيه هو كما نقول : فلان تاه أي سار على غير هدى ولا يعرف لنفسه مدخلاً ولا مخرجاً ، والواحد عندما يدخل في مجال متشعب المسالك ومتعرج الطرقات ، فهو لا يعرف كيفية الخروج منه ، هذا هو التيه . ولكن كم فرسخاً هي مساحة التيه ؟ . حدّدها العلماء بستة فراسخ [ والفرسخ قدر ثلاثة أميال ] . كيف يتيهون في تلك المساحة الضيقة من الأرض ؟ لقد أراد الله ذلك لأنهم ساعة يمشون ويرهقون فينامون ويأتي عليهم الصباح ليجدوا أنفسهم عند النقطة التي بدأوا منها ، وكانوا يضعون العلامات لإيضاح الطريق ، لكنهم كل صباح كانوا يجدون العلامات قد انتقلت من مكانها . وظلّوا على هذا الوضع وفي هذا التيه إلى الأمد والوقت الذي حدده الله وهو أربعون سنة يتيهون في الأرض . وحين يؤدبّ الله عاصياً يحفظ له من القوت والرزق ما يبقى به حياته ولو كان كافراً لأنه سبحانه هو الذي استدعاهم إلى الوجود ، ولهذا لم يضنّ عليهم في التيه بما لم يضنّ به على الكافرين به سبحانه . إذن حفظ الحياة أمر ضروري . وعنما يرتكب إنسانٌ مَا ذنباً كبيراً في حق المجتمع فإننا نضعه في السجن ، ولكننا نطعمه ونسقيه ، وعندما يرتقي المجتمع الإنساني ، فهو يوفّر للسّجين عملاً يتناسب مع مواهبه ويحبس عنه حُرية الحركة في المجتمع ، والسجين المذنب يظل في السجن ، ولكنه يأكل ويشرب وينام ويعمل ، فقط تختلف المسألة في النقطة المهمة في الحياة وهي أن يتحرك المتحرك وفق حريته ، فما بالنا بالحق الأعظم عندما سجنهم في التيه ؟ . لقد أطعمهم الله وسقاهم وأنزل عليهم المَنّ والسَّلوى . وقد يقول قائل : إن الله قد أنزل عليهم المَنّ والسَّلوى ليعيشوا كُسَالى وغّرقى في التَكبر والغرور . ونقول : لا . فذلك الإجراء الإلهي من ضمن حكمه البالغة أن يطيل عليهم الوقت . فلو أنه سبحانه وتعالى قد جعلهم يزرعون ويحرثون لانشغلوا بأمور الحياة اليومية ، لكن الحق أراد أن يُطيل عليهم الإحساس بالزمن . فالمسألة ليست طعاماً وشراباً . ولكن هناك كرامة فوق الطعام وفوق الشراب . إننا نرى ذلك عندما نسمع عن اعتقالات لبعض الأفراد الذين أساءوا للمجتمع . وتسمح لهم السلطات بالطعام الذي يأتيهم من منازلهم . ولكنَّ هؤلاء المعتقلين يشعرون بالضيق من تقييد الحركة . إذن أراد الحق لهم عقاباً صارماً في فترة التيه . ولذلك نجد بعضهم يحسب المسألة والزمن في فترة التيه ، فيقول الواحد منهم ما ذكره الحق : { وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لأَخِيهِ هَارُونَ ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي } [ الأعراف : 142 ] وبعد أن رحل موسى عن القوم عبدوا العجل الذي صنعه لهم موسى السامريّ ، وعاد إليهم موسى وعاتب أخاه هارون العتاب القاسي ، وعاقبهم ربهم على كفرهم أربعين سنة . كأن كل يوم من عبادة العجل صار سنة من العقاب في التيه . ولأنه رَبُّ ورحيم لم يتركهم دون أن يحفظ لهم حياتهم بالقوت ، فكان القوت هو المَنّ والسَّلوى . هل كان موسى عليه السلام معهم في التيه أم لا ؟ وهل مات معهم في التيه أم لا . ؟ تلك أسئلة لا تهمنا الإجابة عنها بالرغم من أن بعض العلماء قد شغلوا أنفسهم بها فتلك أمور لا تنفع ولا تضر . المهم أن بني إسرائيل لم يدخلوا أريحا إلا على يد يوشع بن نون بعد الأربعين سنة : { قَالَ رَبِّ إِنِّي لاۤ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } [ المائدة : 25 - 26 ] ولنا أن نقرأ هذا القول الحكيم كما يلي : { قَالَ رَبِّ إِنِّي لاۤ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } . وهذا الوقف يعطينا الفهم بأن الأرض المقدسة صارت مُحَّرمة عليهم إلى الأبد . وبعد ذلك يأتي أمر الله بعقابهم في التيه أربعين سنة : { أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } . أما لو قرأنا هذا القول الحكيم كما يلي : { قَالَ رَبِّ إِنِّي لاۤ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } فهذه القراءة تتيح لنا الفهم بأن مدة العقوبة لهؤلاء القوم الفاسقين أربعون سنة في التيه . ودخلوا بعدها مدينة أريحا . ويأمر الحق موسى ألاَّ يحزن على هؤلاء القوم الفاسقين ، ذلك أن موسى عليه السلام عندما دعا الله بقوله : { فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا } انتابه قدرٌ من الضّيق من هذا الدُّعاء وقال لنفسه : لماذا لم أدعُ لهم بالهداية بدلاً من أن أدعو بالفراق ؟ ، ولذلك قال له الحق : { فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } أي فلا تحزن عليهم لأنهم أَّوْلَى بالعذاب لفسقهم ومخالفاتهم . ومن بعد ذلك يقول الحق : { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ … } .