Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 50-50)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والجاهلية هي نسبة إلى جاهل . ولو كانت نسبة مأخوذة من الجهل لجاء القول " جهلية " ، لكن الحق يقول هنا : " جاهلية " نسبة إلى جاهل . وحتى نعرف معنى الجاهل بالتحديد لا بد لنا أن نتذكر ونستعيد تقسيم النسب الذي قلناه قديماً ، ونعرف أن كل لفظ نتكلم به له معنى ، وساعة نسمع اللفظ فالمعنى يأتي إلى الذهن إفرادياً . مثلما نسمع كلمة " جبل " فيقفز إلى الذهن صورة الجبل ، لكن لا توجد حالة واضحة للجبل لأن الكلمة لم تكن مصحوبة بحكم . إذن فهناك معنى للفظ ، ولكن هذا المعنى لا يستقل بفائدة . ولكن إن قلنا إن القاهرة مكتظة بالسكان ، أو أن مرافقها متعبة ، هناك نكون قد أتينا بحكم يوضح لنا ماذا نقصد بقولنا القاهرة . إن هناك فرقا بين اللفظ حين يؤدي إلى معنى مفرد لا حكم له ، وبين لفظ له حكم ، ولذلك نجد العربي القديم حين يأتيه لفظ بلا حكم لم يكن لقبله . وها هوذا رجل عربي قال : أشهد أن محمداً رسولَ الله - بفتح اللام في كلمة " رسول " - وبهذا القول تكون " رسول الله " صفة لمحمد وليس فيها الخبر المطلوب . لذلك قال عربي آخر : وماذا يصنع محمدا ؟ ليلفت القائل إلى أنه لم يتلق الخبر . إذن كل لفظ له معنى ، وهذا المعنى مفرد ولا بد له من نسبة . مثلما نقول لصديق : " محمد " ، ويعرف هذا الصديق محمدا ، فيسألك : " وما لمحمد " ؟ وبقوله هذا إنما يطلب الخبر ليعرف ماذا حدث له أو منه ، فتقول : " محمد زارني أمس " . وهكذا تكتمل الفائدة . إذن فكل لفظ من الألفاظ المفردة له معنى حين يفرد . فإذا ما جاء الحكم تنشأ عنه النسبة . وإن كانت النسبة واقعة ويعتقدها قائلها ويستطيع إقامة الدليل عليها فهذه نسبة علم لأن العلم نسبة مجزوم بها وواقعة ونستطيع إقامة الدليل عليها تماما مثلما نقول : الأرض كروية حيث توحي الكلمة أولاً بصورة الأرض وأضفنا إليها نسبة هي " كروية " لأننا نعتقد أنها كروية والواقع يؤكد ذلك ، فإذا ما جئنا بالدليل عليها فهذه نسبة علم . إذن فالعلم نسبة مُعتقَدة وواقعة وعليها دليل . أما إذا كانت النسبة واقعة ومعتقدة ولا نستطيع التدليل عليها فذلك هو التقليد مثلما يكرر الطفل عن والده بعضاً من الحقائق ولكنه لا يستطيع إقامة الدليل عليها ، إنه يقلد من يثق به ، إذن فالمرحلة الأقل من العلم هي التقليد . أما إذا كان الإنسان يعتقد أن النسبة قد حدثت ولكن الواقع غير ذلك ، فهذا هو الجهل ، فالجهل ليس معناه أنك لا تعرف ، ولكن أن تعرف قضية مناقضة للواقع . والجاهل يختلف عن الأمي ، فالأمي هو الذي لا يعرف ، أما الجاهل فهو الذي يعرف قضية مخالفة للواقع ومتشبث بها . { أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } والحق هنا يتساءل : هل يرغبون في الاستمرار بالاعتقاد الخاطئ الجاهل ؟ والأمر مع الأمي - كما عرفنا - يختلف عن الأمر مع الجاهل لأنه يكفيك أن تقول للأمي العلم الذي تريد تعليمه إياه ويقبله منك ، أما الجاهل فلا بد للتعامل معه من عملين … الأول أن تجعله يحذف ويستبعد من باله القضية الخاطئة ، والثاني أن تجعله يقتنع بالقضية الصحيحة . والذي يرهق الدعاة إلى الدين هم الجهلة هؤلاء الذين يعتقدون اعتقاداً خاطئاً يتضمن قضايا باطلة . لكن ماذا إن كانت النسبة مجالاً للنفي ومجالاً للإثبات ؟ إن كان النفي مساوياً للإثبات فهي نسبة شك . وإن غلب الإثبات فهذا ظن . وإن كان النفي راجحاً فذلك هو الوهم . وهكذا يتضح لنا أن قضية الجهل قضية صعبة ، والذي يسبب التعب في هذه الدنيا هم الجهلة لأنهم يعتقدون في قضايا خاطئة . فإذا كان هناك حكم من الله . فلماذا لا يرتضون إذن ؟ أيريدون حكم الجاهلية ؟ وكان أهل الكتاب أنفسهم يسفهون حكم الجاهلية . ولنلحظ أن هذا التسفيه كان في زمن المواجهة بين الجاهلية وبين أهل الكتاب . وكانوا يستفتحون عن أهل المدينة ومكة . وكثيراً ما قالوا : لقد أظلّنا عهد نبي سنتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم . ولكن ما إن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قالوا العكس ، ماذا قالوا للجاهلين ؟ هاهوذا الحق يخبرنا بما قالوا : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً } [ النساء : 51 ] وقد ذهب بعض من أحبار اليهود إلى قريش ، وسألهم بعض من سادة قريش : أنتم أهل الكتاب وأهل العلم القديم فأخبرونا عنا وعن محمد . فقال الأحبار : ما أنتم وما محمد ؟ فقال سادة قريش : نحن ننحر الكوماء ونسقي اللبن على الماء ونفك العاني ونصل الأرحام ونسقي الحجيج وديننا القديم ودين محمد الحديث . فقال الأحبار : أنتم خير منه وأهدى سبيلا . وبذلك زوروا القول . وينقل الرواة قصة أخرى في هذا الموضع ، أن واحداً من أحبار اليهود قال لأبي سفيان : أنتم والله أهدى سبيلاً مما هو عليه . وقال الأحبار ذلك حسداً لرسول الله . إذن فهل يرتضي أهل الكتاب حكم الجاهلية ؟ لا . ولكنه التناقض والتضارب . وماداموا قد تناقضوا مع أنفسهم صار من السهل أن يتناقضوا مع الكتاب الذي نزل إليهم . ولذلك يتساءل الحق : { أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } ثم يأتي من بعد ذلك بالمقابل وهو قوله : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً } . وسبحانه لم يقل : إن الأحسن في الحكم هم المسلمون لجواز أن يكون من المسلمين من ينحرف ، لذلك رد الأمر إلى ما لا يتغير أبداً وهو حكم الله . وحين يقرر سبحانه ذلك فإنه - أزلا - يعلم أنه سيأتي قوم مسلمون وينحرفون عن المنهج . ونحن نرى في بعض الأحيان سلوكاً منحرفاً من مسلم ، فهل نلصق هذا السلوك بالإسلام ؟ لا . بل ننظر إلى حكم الله في كتابه . وعندما نرى أن حكم الله يجرم فعلاً وله عقوبة ، فالعقوبة تقع على المسلم المنحرف أيضاً . والمثال قوله الحق : { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] وهذا الحكم يطبق على المسلم وغير المسلم ، إذن فلا نقول هذا حكم المسلمين وذلك حكم الجاهلية . ولكننا نقول : إنه حكم صاحب المنهج وهو الله . ونلحظ أن هناك استفهاماً في قوله الحق : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً } . والاستفهام هو نقل صورة الشيء في الذهن ، لا نقل حقيقة الشيء . وساعة يطلب المتكلم من المخاطب أن ينقل إليه الفهم ، هنا نقول : هل كان المتكلم لا يعلم الحكم ؟ قد يصح ذلك في الحياة العادية . وقد نراه حين يقول إنسان لآخر : من زارك أمس ؟ فنكون أمام حالة استفهام عن الذي زاره ، تلك هي حقيقة الاستفهام ، لكن ما بالنا إذا كان الذي يتكلم ويستفسر لا تخفى عليه خافية ، إنه - سبحانه - يطلب منا أن نجيب على سؤاله : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً } . وتلك عظمة الأداء . وأضرب مثالاً آخر - ولله المثل الأعلى - عندما يأتيك إنسان ويدعي أنك لم تحسن إليه لأنه كان سجيناً مثلاً وأنت الذي أخرجته من السجن . فتقول له : من الذي ذهب ودفع عنك الكفالة وأخرجك من الحبس ؟ إنك أنت الذي فعلت ولا تريد أن تقول له : لقد فعلت من أجلك كذا وكذا ، ولكنك تريده هو أن ينطق بما فعلته له ، ولا تقول ذلك إلا وأنت واثق أنه لن يجد جواباً إلا الاعتراف بأنك أنت الذي صنعت له كذا وكذا ، وبذلك تصبح المسألة إقراراً وليس إخباراً . { أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } فالحق عالم أنهم حين يديرون رءوسهم في الجواب ، لن يجدوا إلا أن يقولوا : يارب أنت أحسن حكماً . وهذا إقرار منهم وإخبار أيضاً . أما عند المؤمن فالأمر يختلف تماماً لأن المؤمن يعترف ويقر بفضل الله عليه . { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } فالذي يفهم أن حكم الله هو الأفضل هم القوم الذين دخلوا إلى مرحلة اليقين . ونعلم أن مراحل اليقين تتفاوت فيما بينها ، فعندما يخبرك إنسان صادق في قضية ما فأنت تعلم هذه القضية . كأن يقول لك : لقد ذهبت إلى نيويورك . وهذه المدينة تقع على عدد من الجزر وبها عمارات شاهقة والعنف منتشر فيها . والناس تبدو وكأنها ممسوسة من فرط الهوس على الثروة . وحين تسمع هذا الصادق فأنت تأخذه على محمل الجد وتعتبر كلامه يقيناً وهذا هو علم اليقين ، أي أنه إخبار من إنسان تثق فيه لأنه صادق . وبعد ذلك يأتي هذا الإنسان ليوجه لك الدعوة ، فتركب معه الطائرة ، وتطير الطائرة على ارتفاع يساوي أربعين ألف قدم ، وبعد إحدى عشرة ساعة تهبط الطائرة قليلاً لترى أضواء مدينة صاخبة ، ويقول لك صاحبك : هذه هي نيويورك ، وتلك هي ناطحات السحاب . هكذا صار علم اليقين عين يقين . وعندما تنزلان معاً إلى شوارع نيويورك فأنتما تسيران إلى جزيرة مانهاتن . وتصعد إلى برج التجارة أعلى ناطحات السحاب في نيويورك ، وهذا هو حق اليقين . إذن : فمراحل اليقين ثلاث : علم يقين : إذا أخبرك صادق بخبر ما ، وعين يقين : إذا رأيت أنت هذا الخبر ، وحق يقين : إذا دخلت وانغمست في مضمون وتفاصيل هذا الخبر . وقديماً قلت لتلاميذي مثالاً محدداً لأوضح الفارق بين ألوان اليقين ، قلت لهم : لقد رأيت في أندونيسيا ثمرة من ثمار الموز يبلغ طول الثمرة الواحدة نصف المتر . وبالطبع صدقني التلاميذ لأنهم يصدقون قولي . وقد نقلت لهم صورة علمية . وصار لديهم علم يقين . وبعد ذلك أدخل إلى غرفة وأفتح حقيبة وأخرج منها ثمرة الموز التي يبلغ طولها نصف المتر . وبذلك يصير علم اليقين عين يقين . وبعد ذلك أمسكت بسكين وقمت بتقشير ثمرة الموز ووزعت على كل واحد منهم قطعة . وهكذا صار لديهم حق يقين . وحين يطلق الحق " اليقين " فهو يشمل الذي علم والذي تحقق . فأهل الأدلة ، علموا علم اليقين ، وأهل المرائي والمشاهدات علموا عين اليقين ، وأهل الفيوضات والتجليات وصلوا إلى حق اليقين . والمؤمنون بالله يقول الواحد منهم : أنا بمجرد علم اليقين موقن تماماً ولا أنتظر حق اليقين لأني لا أجرؤ على التكذيب لذلك نجد أن سيدنا الإمام عليا - كرم الله وجهه - يقول : لو انكشف عني الحجاب ما ازددت يقيناً . والحق سبحانه وتعالى يعطينا هذه الصورة في قوله الحق : { أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ } [ التكاثر : 1 - 7 ] والبداية تكون علم اليقين ، ثم نرى الجحيم ونحن نسير على الصراط فتصير عين اليقين ، ومن لطف الله أنه جعلنا - نحن المسلمين - لا نراها حق اليقين . وهو القائل : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ] هو يعطينا صورة الجحيم . لكن حينما أراد الحق أن يعطينا صورة حق اليقين ، فقد جاء بها في قوله الحق : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ * أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 75 - 82 ] كل ذلك مقدمة ليقول الحق : { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلْيَقِينِ } [ الواقعة : 95 ] وما يذكره الحق هنا عن منزلة المصدق المؤمن إن هذه المنزلة هي الجنة ويرى ذلك عين اليقين . أما منزلة المكذب الكافر ، فله مكانه في النار لذلك سيرى كل الناس النار كعين اليقين . أما من يدخله الحق النار - والعياذ بالله - فسيعاني منها حق اليقين ، وسينعم المؤمنون بالجنة حق اليقين . ومن بعد ذلك يقول الحق : { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ … } .