Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 78-78)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الحق سبحانه وتعالى يعطي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة تصبره على ما يلاقيه من خصومه من أهل الكتاب ، وكأنه يقول له : إن هذا الأمر ليس بدعاً وليس عجيباً لأن تاريخ أهل الكتاب الطويل يؤيد هذا ، فها هوذا موقفهم من نبي الله داود ، وكذلك موقفهم من عيسى ابن مريم عليه السلام . وهذا يجعل لك أسوة بهؤلاء الرسل الذين نالهم من أذى هؤلاء . فالمسألة ليست خاصة بك وحدك ، وإنما هي طبيعة فيهم ، ويبسط سبحانه في التسرية عن رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يجعل موقفه موقف الصلابة الإيمانية التي لا تخاف ولا تهتز . فينسب هذه الأشياء لنفسه فيقول : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ] . فمرة قالوا عن الرسول : إنه مجنون ، ومرة أخرى قالوا : " ساحر " وثالثة قالوا : " كذاب " . وهم يعرفون كذبهم ، فهم على الرغم من اتهامهم للرسول بالكذب والجنون والسحر إلا أنهم لا يأمنون أحداً على مصالحهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو الأمين دائماً . وكان لهم أن يتعجبوا من موقفهم هذا ، ومن صدهم عن دين الله بالكفر ، وعلى الرغم من ذلك فعندما يكون هناك شيء ثمين ونفيس فلا يُؤمَن عليه إلا محمد بن عبدالله . ما هذا الأمر العجيب إذن ! ! لقد عرفوا صدق النبي صلى الله عليه وسلم وحقيقة رسالته - ما في ذلك ريب - ولكن لأن لهم أهواء أصرّوا على الضلال تمسكاً بالسلطة الزمنية . هم يعرفون أن محمداً هو الأمين . ولذلك نرى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع عليّاً - كرم الله وجهه - ويتركه في مكة ليؤدي الأمانات التي كانت عنده لهؤلاء جميعاً . إذن { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ } [ الأنعام : 33 ] . أي أنك يا رسول الله عندهم الصادق . أنت عندهم يا رسول الله الأمين . أنت عندهم يا رسول الله في منتهى السمو الخلقي . ولو لم تقل إنك رسول من الله لكانوا قد رفعوك إلى أعلى المنازل . ولكنك ببلاغك عن الله زلزلت سلطتهم الزمنية . ولقد حاولوا أن يثنوك عن الرسالة ، فعرضوا عليك الملك ، وعرضوا عليك الثراء ، ولو كنت تقصد شيئاً من ذلك لحققوا لك ما تريد . ولكنك تختار البلاغ الأمين عن الله . لقد عرضوا عليك الملك طواعية . وعرضوا عليك الثروة . وزينوا لك أمر السيادة فيهم شريطة أن تتخلى عن الرسالة . لكنك تختار السبيل الواضح الذي لا لبس فيه على الرغم مما فيه من متاعب ، تختار السبيل الذي يكلفك أمنك وأمن من يتبعك . إنك تتبع ما أنزل إليك من ربك . ومن بعد ذلك جاءوا ليحاصروك في الشِّعب ليمارسوا معك الحصار الاقتصادي بتجويعك وتجويع من معك . ومع هذا كله ما تنازلت عن البلاغ . وكان يجب أن يفطنوا إلى أنك لا تطلب لنفسك شيئاً ، لا المال ولا الجاه بل أنت رسول من الله لا تأكل من صدقة أحد ، لا أنت ولا أهلك . وكان يجب أن يتساءلوا : لماذا تدخل بنفسك إلى هذه الحرب الضارية فلا أنت طالب جاه ولا أنت طالب مال ، ولا أنت طالب لمتعة من تلك المتع . وكان يجب أن يأخذوا العبرة ، فهم يعرضون عليه كل هذه الأشياء . وهو يرفضها لأنه خاتم الأنبياء لذلك يتمثل فيه خير كل من سبقه من الأنبياء . يتمثل فيه على سبيل المثال ما قاله سليمان لوفد بلقيس ملكة سبأ : { فَمَآ آتَانِيَ ٱللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } [ النمل : 36 ] . إذن كان يجب على الناس أن يفطنوا إلى أن النبوة حينما تأتي إنما تأتي لتلفت الناس إلى السماء وإلى منهجها ولتنتظم حركة حياتها في الكون ، وأن المنتفع أولاً وأخيراً بالمنهج هم أنفسهم لأنهم هم الذين يشقون بمخالفتهم منهج الله . وليجرد كل إنسان نفسه من كل شيء ولينظر إلى المنهج ولسوف يجد أنه في صالحه . فها هوذا سليمان الذي دانت له الدنيا وأُعْطِيَ ملكاً لم يعطه الله لأحد من بعده فسخر الله له الريح وسخر له الجن يفعلون له ما يشاء . وكان سليمان يعطي الدقيق النقي للعبيد ليستمتعوا بالطيبات ، ويأكل هو ما تبقى من نخالة الدقيق ، وكان ذلك دليلاً من الله أن هذه المناهج ليست لصالح نبي ، ولكن كل نبي إنما يريد بالمنهج صالحَ مَن أُرسل إليهم . وكانت مقاومة أهل الكتاب لنبي الله داود ، وكيف أنهم اعتدوا في يوم السبت فدعا عليهم داود عليه السلام فمسخهم الحق قردة ، ولعنهم في الزبور ، وكذلك قالوا الإفك في مريم البتول ولعنهم الله في الإنجيل ، ولم يكن اللعن إلا بناءً على ما فعلوا لذلك يذيل الحق الآية بالقول : { ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } . والعصيان - كما نعلم - هو العصيان في ذات الإنسان وفي أموره الخاصة التي لا تتعدى إلى الغير ، أما الاعتداء فهو أيضاً معصية ولكنها متعدية إلى الغير . مثال ذلك : الحاقد إنما يعاقب نفسه ، أما السارق أو المرتشي فهو يضر بغيره . إذن فهناك معصية وهناك عدوان ، المعصية تعود على صاحبها دون أن تتعدى إلى الغير ، أما العدوان فهو أخذ حق من الغير للنفس ، وضرر يرتكبه الفرد فينتقل أثرة إلى الغير . ويقول الحق من بعد ذلك : { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ … } .